الأرض مقابل الاستسلام.. نتنياهو مبشرًا بـ”الشرق الأوسط الجديد”

مقال: باسل رزق الله

في يوم الأحد، 23 شباط/فبراير، كان نتنياهو، يكرر اللازمة الأثيرة طوال الحرب، بأن “إسرائيل تقاتل على سبع جبهات” أو من “أنفاق غزة إلى قرى لبنان وأزقة جنين وحتى إيران”، كما ورد في كلمة نتنياهو . بالتزامن مع خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي، تتواصل الهدنة والصفقة الهشة في قطاع غزة، والدبابات الإسرائيلية تدخل إلى شمال الضفة الغربية في استعراض للقوة، وتستمر إسرائيل في احتلال 5 نقاط داخل لبنان، وطائرات تحلق في سماء بيروت خلال تشييع أمين عام حزب الله السابق حسن نصرالله، بينما تستمر القوات الإسرائيلية في التوغل داخل المنطقة العازلة في سوريا.

في خطابه، قال نتنياهو: إن “إسرائيل لن تنسحب من المنطقة منزوعة السلاح بين إسرائيل وسوريا ولن تسمح للنظام السوري الجديد بدخول الأراضي الواقعة جنوب العاصمة دمشق”. مضيفًا: “الجيش الإسرائيلي سيبقى في جبل الشيخ والمنطقة منزوعة السلاح لفترة زمنية غير محدودة من أجل الدفاع عن مجتمعاتنا وإحباط أي تهديد”.

في خلفية خطاب نتنياهو، كانت الأعوام 2023 و2024 هي أول أعوام منذ عام 1982 تعود فيها إسرائيل إلى احتلال أراضٍ عربية جديدة، وفيها عادت للحديث عن مشاريع تهجير علنية. وفيها تظهر رغبة نتنياهو في “إعادة تشكيل الشرق الأوسط”. وهي كلها مؤشرات تؤكد على أن هذه الإجراءات وغيرها ليست مجرد استجابة أمنية لظرف طارئ، ولكنها جزء من مسعى طويل للتوسع وضم مزيد من الأرض.

حتى الآن، تتوغل إسرائيل في منطقة واسعة من جنوب سوريا، بينما تجاوز الخطاب السياسي الإسرائيلي فكرة أو إمكانية “الانسحاب” من الجولان السوري المحتل. وفي لبنان، ترفض إسرائيل الانسحاب من 5 نقاط حدودية مرتفعة، بينما ترغب في تحويل الجيش اللبناني إلى قوة حرس حدود لها. أمّا في غزة، فإن أفكار التهجير وتطهير القطاع بشكلٍ كامل، التي اعتقد ضباط من الجيش الإسرائيلي بقدرتهم على تنفيذها لوحدهم، فهي حاضرة حال استئناف الحرب، بحسب ما يظهر في تقارير إسرائيلية، وتتسرب عبر تصريحات سموتريتش، بينما يُقر وزير الأمن الإسرائيلي كاتس، بتهجير 40 ألف فلسطيني في شمال الضفة الغربية، وطلبه من الجيش التواجد الطويل هناك.

ما لا يقوله نتنياهو صراحة، ربما يقوله سموتريتش، الذي كان شريكًا في الجلسة التي اتخذ فيها قرار وقف دفعة صفقة التبادل. قال وزير المالية الوزير في وزارة الأمن، إن “السيادة يجب أن تكون طموحًا ليس فقط في يهودا والسامرة (الاسم التوراتي للضفة الغربية) بل وأيضًا في غزة”، جاء ذلك في مؤتمر السيادة للمجلس الاستيطاني للضفة الغربية، والسيادة هي اللفظة التي يستخدمها أنصار اليمين في إسرائيل كبديل عن “الضم”.

وأضاف: “أعتقد أنه يجب أن نضع إنذارًا واضحًا، إذا لم يتم إعادة جميع المختطفين، أحياء وأمواتًا، بحلول يوم السبت المقبل، فإن إسرائيل ستوسع المناطق الزراعية للكيبوتسات في بئيري ونير عوز إلى منطقة محيط قطاع غزة… كما كنا وما زلنا نخوض منذ سنوات معركة من أجل كل دونم في ’يهودا والسامرة’، فإننا الآن نخوض معركة من أجل كل دونم في قطاع غزة. الزراعة في الكيبوتس ستتوسع على حساب غزة، وهذه الأرض ستبقى في أيدينا إلى الأبد”.

وفي تصريحات أخرى، خلال اليوم ذاته، قال: “صدقوني سوف تفاجأون بقوة وحدة وفتك عملية احتلال غزة عندما نقرر أن الوقت قد حان لتجديدها”، وسموتريتش كما نتنياهو يعول على وجود ترامب في البيت الأبيض، لتحقيق هذا الهدف. وفعليًا، فإن المجالس الاستيطانية للضفة الغربية تتحرك في الولايات المتحدة من أجل دعم  ضم الضفة من قبل إدارة ترامب.

وفي تصريح لافت قبل حوالي 10 أيام للوزير نفسه، وخلال تعثر صفقة التبادل، قال سموتريتش: “أدعو رئيس الوزراء إلى الإعلان فور العودة إلى الحرب بعد المرحلة الأولى، أن دولة إسرائيل ستحتل 10% من أراضي قطاع غزة، وتفرض سيطرتها الكاملة عليها، وتطبق السيادة الإسرائيلية عليها. ستعلنون أنه فور العودة إلى الحرب، سيتم وقف كل المساعدات الإنسانية بشكل كامل، ووفقًا للخطة التي يتم تطويرها هذه الأيام، سيتمكن سكان غزة من مغادرة القطاع في اتجاه واحد فقط، دون القدرة على العودة. وفي نفس الوقت، ستبلغون حماس والعالم أجمع أنه مقابل كل شعرة تسقط من رؤوس أسرانا، سنفرض السيادة الإسرائيلية على 5% أخرى من أراضي القطاع، ثم 5% أخرى، و5% أخرى”.

أمّا الجيش الإسرائيلي، فإنه يبلور مفهومًا دفاعيًا ثلاثيًا، على الحدود المحيطة، بما فيها مع الدول التي وقعت اتفاقيات تطبيع، تتضمن مناطق منزوعة من السلاح وعوائق أرضية، بما في ذلك خارج الحدود.

على مدار سنوات، كان نتنياهو يبشر بـ”شرق أوسط جديد” (للإشارة، كرر ذلك في كلمة يوم 25 شباط/فبراير)، تستكمل فيه اتفاقيات التطبيع مع الدول العربية وتندمج فيه إسرائيل بالمنطقة، والأهم مع تجاوز وتهميش القضية الفلسطينية.

كان نتنياهو، يقدم استئنافًا على مفاهيم إسرائيلية قديمة، بما ترتبط بالأرض و”الشرق الأوسط الجديد”، كان ذلك ظاهرًا في خطابه الذي تزامن مع كل هذه الرمزيات.

طوال سنوات، ساد في إسرائيل مفهوم “الأرض مقابل السلام”. تطور المفهوم بشكلٍ جدي بعد حرب حزيران/يونيو 1967، حينها اعتبرت الأراضي العربية المحتلة “ممسوكة” من قبل إسرائيل، حتى التوصل إلى توافق سياسي، ينتهي بانسحاب إسرائيل من هذه الأرض، مقابل اتفاقية سلام.

كان التطبيق الأول لهذا التصور، هو في اتفاقية كامب ديفيد مع مصر. أمّا التطبيق الثاني والأخير، في اتفاقية أوسلو، مع منظمة التحرير الفلسطينية، وحينها صعد تيار تمدد في إسرائيل اعتبر ما حصل خطيئة، لن تتكرر. رغم بداية مفاوضات مع سوريا ولبنان، بناءً على هذا المبدأ، لم تصل إلى نتيجة، واستمر بعضها حتى بداية الربيع العربي، كما حدث في الحالة الفلسطينية لفترة طويلة نسبيًا أيضًا.

أما نتنياهو فهو من زمن آخر، أي زمن تجاوز فكرة “الأرض مقابل السلام”، وبدأ يطور فكرة السلام الذي يصنع بالقوة؛ لأنه وببساطة كما قال نتنياهو منذ ما يزيد عن 10 أعوام: “في الشرق الأوسط وفي العالم القاسي الذي نعيش فيه، من أجل البقاء يجب أن تكون قويًا. كان هذا صحيحًا في زمن هرتزل، وهو صحيح بشكل مضاعف في عصرنا”.

في عام 2020، في عهد ترامب الأول، كسر نتنياهو وإسرائيل، فكرة “الأرض مقابل السلام”، وما طبق فعليًا هو “السلام مقابل السلام”. دشن ذلك فعليًا، في اتفاقيات أبراهام للتطبيع، التي أقرت هذا المبدأ، وكانت ضمن تصور تجاوز القضية الفلسطينية وتهميشها، وهي عكس للفكرة التي روجت، مع بداية اتفاقية أوسلو، ولاحقًا عبر المبادرة العربية، باعتبار أن التطبيع العربي مع إسرائيل، يمر عبر اتفاق مع الفلسطينيين، بينما كانت اتفاقيات السلام هذه، عكسًا لهذه الفكرة، التي راجت وعاشت لسنوات.

وقتها، عند التصديق على اتفاقيات السلام، قال رئيس الكنيست حينها ووزير العدل الإسرائيلي حاليًا ياريف ليفين: “الترتيب القائم على صفقة يحصل بموجبها أحد الطرفين على السلام، وفي المقابل يدفع ثمنه الأرض إلى الطرف الآخر، ليس إلا مسخرة، وهو ترتيب لا يمت بصلة إلى أخوة الشعوب والرغبة المتبادلة في العيش معًا”. وأضاف متوجهًا إلى نتنياهو: “لقد أصررت لسنوات عديدة على سياسة واضحة مفادها أن السلام لن يتحقق من خلال التنازل، ولكن فقط من خلال المتانة، ليس من منطلق صفقة بيع ’أرض الوطن’، ولكن فقط من خلال المصلحة المشتركة والمتبادلة في السلام”.

ومنذ 5 أشهر، يخرج نتنياهو مزهوًا كل مرة، في حديثه عن تغيير الشرق الأوسط، وعن ما حققته إسرائيل في الحرب الطويلة والدائمة، وبينما تدور نقاشات وتحليلات طويلة حول “إنجازات إسرائيل التكتيكية وأزمتها الاستراتيجية”، فإن المبدأ الذي يطرحه نتنياهو، على سوريا، لبنان، والفلسطينيين، هو “الاستسلام مقابل السلام”. وحتى عندما كرر على نتنياهو، إمكانية التطبيع مع السعودية مقابل إقامة دولة فلسطينية، أو وعد بها، رد بالقول: “إذا كنت تريد أن تكون الدولة الفلسطينية في المملكة العربية السعودية. لديهم الكثير من الأراضي، الكثير من الأراضي”. (وللإشارة، فإن المعارضة الإسرائيلية، كما كانت قبل الحرب، فإن ما تمتلكه حتى الآن هو شعار ’أي شخص إلا نتنياهو’، وهذا ليس مشروعًا سياسيًا، كما تشير التحليلات).

هذا ما طرحه نتنياهو فعليًا على سوريا، بوجود منطقة من أرضها، دون سيادة ومنزوعة السلاح بناءً على الرغبة الإسرائيلية. وهو ما عاد إلى تكراره مرة أخرى، بينما ذهب وزير الخارجية الإسرائيلية جدعون ساعر إلى أبعد من ذلك، بالقول: “لا يمكن لسوريا أن تكون مستقرة إلا إذا كان هناك اتحاد فيدرالي يشمل مختلف أشكال الحكم الذاتي ويحترم أنماط الحياة المتنوعة”.

وبعد كلمات نتنياهو وساعر، كرر الجيش الإسرائيلي قصفه على محيط دمشق، وبعد لحظات من الغارات، قال وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس: “سلاح الجو هاجم بقوة في جنوب سوريا كجزء من السياسة الجديدة التي حددناها لتهدئة جنوب سوريا. الرسالة واضحة: لن نسمح لجنوب سوريا أن يصبح جنوب لبنان. أي محاولة من جانب قوات النظام السوري والمنظمات الإرهابية في البلاد للتمركز في المنطقة الأمنية في جنوب سوريا سيتم الرد عليها بالنيران”. وهي إشارة إسرائيلية أخرى للمعادلة التي تفرض بالسيطرة على جزء من الأرض السورية.

وهو ما تكرره إسرائيل في لبنان، بالقصف الجوي واستمرار الاحتلال، وهو ما تسعى إليه أيضًا في غّزة والضفة الغربية. طوال سنوات طرح في إسرائيل، أفكار عن “الشرق الأوسط الجديد”، تكون إسرائيل فيه مندمجة فيه بشكلٍ كامل بعد توقيع اتفاقيات السلام. لكن ما يطرحه نتنياهو، هو “شرق أوسط جديد”، قائم على القوة، تتسيده إسرائيل مقابل سلام مجاني، وخسارة المزيد من الأرض، أو أقله خسارة السيادة عليها.

187
اترك التعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *