الحصول على المياه في شمال قطاع غزة: أعمال يومية شاقّة

“حياتنا اليومية في مدينة غزة عبارة عن طابور”، يقول محمد أبو عيادة، وهو العائد مع أسرته إلى حيّ الرمال الجنوبي، بعد رحلة نزوح قسرية في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، امتدت لنحو 15 شهرًا، بدأت منذ الأسبوع الأول لاندلاع الحرب الإسرائيلية على القطاع في تشرين الأول/أكتوبر من العام 2023.

كان أبو عيادة (46 عامًا)، وأسرته المكوّنة من 7 أفراد، من أوائل العائدين إلى مدينة غزة، بعد دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في 19 كانون الثاني/يناير الماضي، ويقول: “كنت من القلائل المحظوظين، فقد وجدت شقتي في برج سكني قائمة، رغم ما لحق بالبرج من دمار”.

واستصلح أبو عيادة الشقة التي أصابها دمارٌ جزئيّ؛ حيث لم يبق فيها نافذة سليمة، ولحق خراب بالجدران والأثاث. لكنّها بالنسبة له ولأسرته “أفضل من الخيمة بمليون مرة”، حسبما يقول.

بيد أن الرجل الأربعيني يعاني وأبناؤه يوميًا من أجل تدبير الاحتياجات الأساسية للأسرة، ويضطرون للنزول والصعود على الأقدام إلى شقتهم في الدور السابع من البرج، حيث المصاعد لا تعمل، جرّاء انقطاع الكهرباء كليًا منذ اندلاع الحرب.

مهامّ شاقة

وبسبب أزمة الكهرباء، علاوة على الدمار الهائل الذي أحدثه جيش الاحتلال الإسرائيلي في آبار وشبكات المياه بالمدينة، يعتبر توفير المياه العذبة للشرب، والمياه للاستخدامات المنزلية الأخرى، “مهمة شاقة يومية”، بحسب وصف أبو عيادة.

وبحسب بلدية غزة فإن الحرب دمرت 75% من البنية التحتية للمياه في المدينة، ورغم اتفاق وقف إطلاق النار، فإنها غير قادرة على إجراء عمليات إصلاح، وترميم، وتوفير الخدمات للسكان، خاصّة مع العودة الكبيرة للنازحين إليها، وذلك جراء عرقلة الاحتلال إدخال الآليات الثقيلة، والوقود، والمواد اللازمة للصيانة.

ويضطر أبو عيادة وأبنائه للسير لبضع مئات من الأمتار، والوقوف في صف يوميًا على نقطة للتزود بالمياه من بئر خاصة، يقول إنها الوحيدة في المنطقة التي شهدت عودة كبيرة لسكانها، وغالبيتهم ممن كانوا نازحين في مناطق جنوب القطاع.

تستنزف هذه المهمة اليومية من أبو عيادة ساعاتٍ طويلة وجهدًا كبيرًا، ويقول: “إن أسرتي كبيرة وتحتاج المياه على مدار اليوم، وفي حال كانت المياه متوفرة في الخزانات نضطر إلى التعبئة أكثر من مرة يوميًا، وهو أمر شاق ومرهق”.

هذه البئر مياهها مالحة، وتستخدمها أسرة أبو عيادة للنظافة، والاستخدامات المنزلية، أما الحصول على المياه العذبة للشرب؛ فذلك يتطلّب القيام بمهمّة أخرى.

بسبب تدمير الاحتلال غالبية محطات تحلية المياه في المدينة وشمال القطاع، فإن السكان ينتظرون شاحنات تحمل صهاريج من المياه العذبة للتزوّد بالحد الأدنى من حاجتهم من هذه المياه، وهي غالبًا مجانية تدعمها هيئات خيرية، ويكون الازدحام عليها شديدًا.

وبحسب أبو عيادة: “لا تفي هذه الشاحنات بالحاجة الكبيرة والمتزايدة في شمال القطاع، خاصة بعد عودة مئات آلاف النازحين من الجنوب”.

وتشير التقديرات إلى أن تعداد السكان في مدينة غزة وشمال القطاع ارتفع إلى مليون و400 ألف نسمة بعد عودة النازحين من جنوب القطاع، بالتالي تضاعف الضغط على المياه، والخدمات الأخرى في هذه المناطق المنكوبة جرّاء الدمار الهائل.

آبار خاصة

محمد سلطان كان من النازحين في جنوب القطاع، وعاد إلى منزله في حي النصر شمال مدينة غزة، يقول: إن نجله حمزة (17 عامًا)، يضطر يوميًا لتعبئة دلوين كبيرين سعة الواحد (20 لترًا)، مرة أو مرتين، والصعود بهما إلى الدور الرابع من البناية السكنية التي يقطن بها”.

ونزح محمد سلطان وأسرته (8 أفراد) إلى مدينة رفح مع بداية الحرب، وسافرت زوجته المريضة وبقية الأسرة لمصر في رحلة علاج قبيل احتلال معبر رفح البري في أيار/مايو 2024، فبقي مع نجله البكر حمزة، وخاضا معًا تجربة النزوح المريرة من مكان إلى آخر في الخيام.

يقول سلطان: “عدنا إلى غزة بكثير من السعادة، وقد غبنا عنها لشهور طويلة مضطرين، ولكن الحياة صعبة جدًا هنا، خاصة بالنسبة لتوفير المياه للشرب، والنظافة”.

بعد أيام مريرة كان فيها حمزة مضطرًا للسير لمسافة بعيدة للحصول على المياه، قلّت معاناته الآن قليلًا بعد أن وفرت أسرة، تمتلك بئرًا خاصة، نقطة مياه مجانية أسفل البناية السكنية التي يقطن بها.

هذه البئر تملكها أسرة الشهيد هاني الجعفراوي، الذي اغتالته قوات الاحتلال في حزيران/ يونيو 2024، وهو على رأس عمله كمدير دائرة الإسعاف والطوارئ في وزارة الصحية، بغارة جوية استهدفته في عيادة حي الدرج بمدينة غزة، التي رفض النزوح عنها. وقبل استشهاده، قرر الجعفراوي تخصيص مياه البئر بالمجّان لسكان الحي، من أجل تعزيز صمودهم وبقائهم.

ويقول صالح مهاني: “هذه البئر عززت صمودنا، وساعدتنا على مواجهة ضغوط الاحتلال بالجرائم والتجويع والتعطيش من أجل دفعنا للنزوح”.

مهاني (31 عامًا)، وأسرته الصغيرة المكوّنة من 4 أفراد، لم ينزحوا من مدينة غزة إلى جنوب القطاع، لكنهم اضطروا للتنقل مرارًا بين أحياء المدينة، كلما تغيّرت ظروف مناطق تواجدهم، جرّاء القصف الجوي والمدفعي المتكرّر خلال الحرب.

ويقول إنه في كل مرة كان يستطيع فيها العودة إلى منزله المجاور لبئر الجعفراوي كان لا يتردد. وبرأيه، فإن المياه التي توفرها البئر لمن تبقى من سكان في الحي ساعدتهم على البقاء والصمود.

ويقول عدنان (35 عاما)، نجل الشهيد الجعفراوي، إنهم لا يزالون يعملون بوصية والده، ويسعون في خدمة الناس، وتوفير المياه لهم بالمجان، وقد أصبحت المياه حاليًا في مدينة غزة وشمال القطاع تمثل أزمة كبيرة خاصة مع العودة الكبيرة للنازحين.

وكانت هذه البئر، بحسب عدنان، تخدم نحو 500 أسرة قبل عودة النازحين من الجنوب، ويقول: “إن الحاجة الآن أكبر وأشد، وتحتاج إلى تضافر جهود الجميع، وقد بادر أصحاب آبار أخرى إلى إتاحة المياه بالمجان للسكان والجيران”.

تدمير وخروق

يتّهم المكتب الإعلامي الحكومي في غزة دولة الاحتلال بخرق البروتوكول الإنساني ضمن اتفاق وقف إطلاق النار، والاستمرار في منع دخول الآليات الثقيلة، والمعدات، والمواد اللازمة للبناء والصيانة، بما فيها المتعلقة بإصلاح آبار وشبكات المياه المدمرة.

ويقدر المتحدث باسم بلدية غزة عاصم النبيه، بأن جيش الاحتلال دمر 60 بئرًا مركزية في المدينة، بما يعادل 75% من إجمالي الآبار في هذه المدينة، الأكبر بين مدن القطاع، وكان يقطنها قبل الحرب ما بين 700 إلى 800 ألف نسمة.

ويقول النبيه، إن جيش الاحتلال دمر كذلك ما يزيد عن 100 ألف متر طولي من شبكات وخطوط المياه، لافتًا إلى أن البلدية غير قادرة على إيصال المياه لأكثر من نصف المدينة، جرّاء عدم توفر الإمكانيات ومواد الصيانة، وتدمير الاحتلال 133 آلية ثقيلة ومتوسطة بما يعادل 85% من إجمالي الآليات التي تملكها البلدية.

وبحسب النبيه، فإنه إلى جانب النقص الحادّ في المعدات، والأدوات اللازمة لصيانة آبار وشبكات المياه، تعاني بلدية غزة وباقي بلديات القطاع من أزمة في الوقود، اللازم لتشغيل آبار المياه القليلة الناجية من التدمير.

وجرّاء ذلك، لا تستطيع البلدية ضخّ المياه لأكثر من نصف المدينة التي يقطنها حاليًا نحو نصف مليون نسمة، ويضطر مواطنون إلى تشغيل آبار محلية صغيرة (منزلية أو تابعة لهيئات محلية)، فيما يقوم السكان بنقل حاجتهم من المياه بطرق بدائية وصعبة، وفقًا للمتحدث باسم بلدية غزة.

المصدر: وكالات
145
اترك التعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *