غزة مشكلة أكثر من كونها هدية.. عن مشروع تهجير قطاع غزّة المُبكر

هيئة التحرير: لؤي حمدان

في 12 حزيران/يونيو 1967، كان وزير الأمن الإسرائيلي، موشيه دايان، يُقيم الموقف من تمدد إسرائيل الكبير، ليصف قطاع غزة، المنطقة الأصغر التي احتلتها إسرائيل، بأنها “مشكلة أكثر من كونها هدية”. أقل من 30 عامًا بعد موقف دايان السابق، قيل عن إسحاق رابين، عند توقيع اتفاقيات أوسلو، إنه “كان يفضل أن تنفصل غزة عن إسرائيل بطريقة سحرية وتُبحر غربًا إلى البحر الأبيض المتوسط”.

وبتنا نعلم اليوم، بأنه في 12 تشرين الأول/أكتوبر 2023، عند وصول وزير الخارجية الأميركي السابق أنتوني بلينكن، إلى إسرائيل، وبعد توافق سريع على دعم إسرائيل المفتوح في الحرب، انتقل بلينكن إلى سؤال “ماذا ستفعل إسرائيل بشأن المدنيين في غزة؟”. وكان نتنياهو صاحب الإجابة الأولى، بالقول: “لنقم بإنشاء ممر إنساني. سنأخذهم جميعًا إلى مصر ونتركهم يذهبون هناك”. ورد بلينكن، بالقول: “قد تكون هناك مخاوف بشأن ذلك، لكن دعونا نتحدث مع الآخرين”. بينما أجابه وزير شؤون الاستراتيجية رون ديرمر، الذي يوصف بـ”عقل بيبي”، بالقول: “لن تكون هناك أزمة إنسانية في غزة إذا لم يكن هناك مدنيون. رجل واحد -قاصدًا السيسي- لا يمكن أن يقف في الطريق”، بحسب ما ورد في كتاب “حرب” لبوب ودورد.

وفي أيام الحرب الأولى، روجت الولايات المتحدة لفكرة فتح ممر آمن من قطاع غزة إلى مصر. وبالتزامن مع ما سبق، ظهرت خطة وزارة الاستخبارات الإسرائيلية، التي تقترح من بين عدة حلول تهجير أهالي قطاع غزة إلى سيناء، وهي خطة أقرت الحكومة الإسرائيلية بوجودها، ولكنها وصفت بـ”الأولية”، ورغم هامشية الوزارة، إلّا أن اقتراحها قدم ليكون أرضية للنقاش في الحكومة السياسية.

وفي آب/أغسطس 2019، كشف وزير إسرائيلي، عن مناقشات عدة عقدتها إسرائيل، لتشجيع “هجرة” أهالي قطاع غزة، وطرح إمكانية تنظيم لرحلات منظمة بهدف نقل سكان القطاع، مع نقاش الأمر عدة مرات في “الكابنيت”، وطرح القضية على عدة دول.

في الأيام الأخيرة، وبينما كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يقف مزهوًا إلى جانب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، طرح الرئيس الأميركي، “استيلاء الولايات المتحدة على القطاع”، وتهجير أهله إلى مكان آخر. كان تصريح ترامب، ضمن سلسلة من التصريحات السابقة واللاحقة، التي تدعو إلى تهجير أهالي القطاع. وفي تلخيص الزيارة إلى واشنطن، قال نتنياهو: إن “اللقاء نقطة تحول هائلة لإسرائيل”، مشيرًا إلى أن فكرة ترامب “الأصيلة والرائعة، يجب تنفيذها”. مع طلب وزير الأمن الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، إعداد خطة تطرح “كيفية تنفيذ خطة ترامب”، من قبل الجيش الإسرائيلي.

مما ورد عن خطة ترامب، طرح الرئيس الأميركي، تهجير أهالي غزة إلى المغرب أو أرض الصومال، بما سيظهر معنا لاحقًا، تقاطعات بين هذه الدول، وطروحات مشروع التهجير الإسرائيلي الأول لقطاع غزة، بعد عام 1967، مع رفض الوزير الإسرائيلي كاتس أي حديث معارض أو محذر من خطة ترامب.

وما يظهر من خطة ترامب الحالية، بمعزل عن تقييم جديتها من عدمه، بُعدها عن أي تخطيط استراتيجي أو نقاشات واسعة، رغم تفكير ترامب فيها على مدار أسابيع، مثلما فعل ليفي أشكول، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بعد حزيران/يونيو 1967، مع رغبة ترامب بـ”القيام في شيء جريء لم يقم به أحد آخر”.

ونتنياهو، وهو يعقب على المقترح، قال إن ترامب “يتحدث عن غزة مختلفة”، أمّا عن إمكانية المشروع، فقد قال: “أخبرني أنه على اتصال بزعماء عدد كبير من البلدان. ​​لا أريد الكشف عن أسمائهم. أستطيع أن أحصيهم، لكنني لن أفعل ذلك أيضًا”، وفق تعبيره.

مع وقف إطلاق النار في 19 كانون الثاني/يناير، فإن مشروع التهجير، الذي كان أحد عناوين الحرب، بقي حاضرًا، ومفاعيله ما تزال قائمةً، وحصل على دفعة كبيرة بتصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي صاغ هتافات ونقاشات نشطاء اليمين الإسرائيلي، في خطاب بالبيت الأبيض. وبمعزل عن جدية ترامب أو مشروعه، الذي يتعامل مع العلاقات السياسية والدبلوماسية كـ”صفقات تجارية وعقارية”، وقالها صراحة، فإنه ينظر أيضًا للأمر بمنطق “الربح والخسارة”، أي الحاجة إلى رابح واحد وخاسر واحد، وواضح.

في هذه المادة سنقدم عرضًا موجزًا لأول خطة تهجير إسرائيلية، لقطاع غزة، طرحت بعد حرب حزيران/يونيو 1967، بناءً على دراسة للمؤرخ الإسرائيلي يوآف غيلبر وتقارير صحفية أخرى.

إجماع إسرائيلي

كان قطاع غزة، محور نقاشات عديدة، داخل الحكومة الإسرائيلية بعد حرب حزيران/يونيو 1967، تحت عنوان أساسي، ضم قطاع غزة بدون “المشكلة” الأساسية، وهي سكانه، ففي 25 حزيران/يونيو 1967، قال وزير الأمن موشيه دايان: “إذا تمكنا من إخلاء ثلاثمائة ألف لاجئ من غزة إلى أماكن أخرى… فإننا نستطيع ضم غزة دون مشكلة”. وبحسب محاضر الاجتماعات، فإن الحكومة التي قادها ليفي أشكول، كانت تُجمع على هذه النقاط الأساسية العريضة، مع تفاصيل عديدة داخلها، حول سُبل تنفيذها، ونقاش عن دفع الأموال مقابل التهجير، وطروحات متعددة حول المناطق التي سيهجر لها أهالي غزة، بداية من الضفة الغربية، والعريش، والأردن، وصولًا إلى ليبيا والصومال والأرجنتين والبرازيل وأوروغواي، وحتى كندا وأستراليا.

ظهر التوافق الإسرائيلي على ضم غزة منذ البداية، وبحسب تقرير للصحفي في “هآرتس”، عوفر أديريت، كان النقاش يدور على تفاصيل التهجير، ووصل الأمر إلى طرح الوزير يغال آلون، إمكانية “تهجير عرب الجليل”، مع إجماع على أن الأمر يحتاج إلى “هدوء” خشية إفشال المشروع أو استغلال لحرب من أجل إتمامه بشكلٍ كامل وسريع.

وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي أشكول: “أقترح ضم القدس وقطاع غزة، رغم أنني لن أقول الأمرين في نفس الوقت. نحن على استعداد للموت من أجل القدس، وفيما يتعلق بقطاع غزة، عندما نتذكر 400 ألف عربي، فإن هذا يترك شعورًا مريرًا”.

بدوره، قال الوزير الإسرائيلي يغال آلون، إنه “يؤيد تشجيع الهجرة إلى الخارج”، مضيفًا “يتعين علينا أن نتعامل مع الأمر بجدية قدر الإمكان. إن منطقة سيناء بأكملها، وليس العريش فقط، تسمح بتوطين جميع لاجئي غزة، وفي رأيي لا ينبغي لنا أن ننتظر. يتعين علينا أن نبدأ في توطينهم. يمكن أن يذهب بعض الفلسطينيين إلى كندا وأستراليا”.

وبحسب تقرير “هآرتس”، في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 1967، تساءل وزير العدل الإسرائيلي يعقوب شمشون شابيرا: “متى سنحصل على أي معلومات عن خطة توطين اللاجئين من قطاع غزة في الضفة الغربية؟ لقد سمعت شائعات”. ويوضح التقرير: “في ذلك الوقت كانت هناك لجنة مهنية تسمى لجنة تنمية الأراضي المحتلة، وكان أعضاؤها من أفراد الأمن والأكاديميين. وكانت مهمتها، كما حددها أشكول، دراسة ’الجانب الاقتصادي والاجتماعي لهذه الإمبراطورية بأكملها أو جزء منها’، بما في ذلك ’إثارة الأفكار حول الهجرة’”.

ما هي الطرق التي طرحت في إسرائيل لتهجير أهالي غزة؟ تحدث موشيه دايان عن إمكانية “اتفاق سلام يشمل توطين اللاجئين، وإخراجهم من غزة، وتوطينهم في الضفة الشرقية للأردن”. بينما كان الوزير الإسرائيلي إلياهو ساسون يتحدث عن إمكانية تشجيع الهجرة عبر فرص العمل التي توفر بالخارج، أمّا وزير الشؤون الدينية زيراش فارهافتيج، فقد قال: “إذا دفعنا 1000 دولار مقابل كشك طالما أنهم يغادرون مع عائلاتهم إلى البرازيل أو الأرجنتين، فإنني أرى قيمة كبيرة في ذلك. وبهذه الطريقة يمكننا تحفيز 10 آلاف أسرة على مغادرة غزة”.

أمّا يغال آلون، فقد كان أكثر “طموحًا”، بالقول: “لن يكون من السيئ على الإطلاق أن نخفض عدد العرب في الجليل”. وخلال نقاش الحكومة، تساءل: “لماذا لا نستطيع أن نوسع ذلك ليشمل عرب إسرائيل القديمة؟”، وفق قوله. وفي المجمل، كان العمل الإسرائيلي، ينفذ عبر مسارات عدة، بهدف إخراج مشروع تهجير غزة.

وفي موضع آخر، قال أشكول: “من الممكن أنه إذا لم نمنحهم ما يكفي من المياه فلن يكون لديهم أي خيار؛ لأن البساتين ستصفر وتذبل. ولكن لا يمكننا أن نعرف كل هذا مسبقًا. ومن يدري، ربما نتوقع حربًا أخرى ثم تحل هذه المشكلة، ولكن هذا نوع من الترف، وحل غير متوقع”. ولعل حديث أشكول القديم، يمكن مقاربته مع سلوك إسرائيل الحديث.

وفي اليوم الأخير من عام 1967، كان لدى أشكول “خبر”، حيث كشف للوزراء: “أنا مشارك في إنشاء وحدة أو فرقة للتعامل مع تشجيع هجرة العرب من هنا”. وأضاف: “يتعين علينا أن نتعامل مع هذه القضية بهدوء وهدوء وسرية، وعلينا أن نبحث عن طريقة لهجرتهم إلى دول أخرى وليس فقط إلى شرق الأردن”، بحسب ما ورد في “هآرتس”.

يمكن الانتقال إلى “الوحدة” أو “الفرقة” التي طرحها أشكول، عبر دراسة المؤرخ الإسرائيلي يوآف غلبر، تحت عنوان “المشروع الذي فاته القطار: الخروج من غزة بعد حرب الأيام الستة”. ويؤكد غلبر، الإجماع الإسرائيلي، على ضم القدس والجولان وغزة، رغم شكوك أشكول، نتيجة أعداد الفلسطينيين الكبيرة.

لماذا حصل قطاع غزة على هذا الحيز من النقاش الإسرائيلي؟ لأن النقاش حول خيارات الحكم مع الوجهاء، مثلما تلك التي حصلت في الضفة الغربية، لم تكون حاضرةً في غزة، كما أن قطاع غزة، وفق الإدارة العسكرية، التي قادها أفيف برزيلاي ومن ثم مردخاي غور، كان “قطاع غزة صعبًا على الإدارة، مع كثافة السكان، ونقص فرص العمل، والإهمال المصري السابق”. ووفق دراسة غلبر: “لم تقرر الحكومة ضم القطاع، لكن الإدارة العسكرية أُرشدت من خلال الإرادة السياسية بأن يكون القطاع جزءًا من دولة إسرائيل”.

وفي حينها أيضًا، أي سنوات الستينات، وفي تشابه مع اليوم، كانت وكالة الأونروا، محط نقاش في إسرائيل، مع انقسام في وجهات النظر، كلها تقوم على أرضية التهجير، بين من يفضل توزيع ميزانية الوكالة على الدول العربية، وطرف يفضل إنهاء الوكالة، التي وصفت بـ”الجسم السرطاني، حتى لا تدوم مشكلة اللاجئين”. بينما اعتبرت وزارة الخارجية الإسرائيلية التعاون مع الوكالة “سليمًا” بل دعمتها بـ”هدف تأهيل المزيد من أهالي غزة، كي ترتفع فرص هجرتهم”.

وبالإشارة إلى اللجنة السابقة، التي تحدث عنها أشكول، برئاسة الديموغرافي روبرتو بيكي، توصلت إلى استنتاجين: الأول، أنه يجب تشجيع هجرة اللاجئين، خاصة من قطاع غزة. والثاني، أنه لا توجد صعوبة اقتصادية في توطين اللاجئين في الضفة الغربية. مشيرةً إلى صعوبة تهجير أهالي غزة لشمال سيناء “نتيجة انعدام الأمل الاقتصادي”. وبالنظر إلى هذه الاستنتاجات، فإنه حسب غلبر، كان أشكول ينظر إلى عملية التهجير باعتبارها “حساسة”، خشيةً من الضغط الدولي.

لكن لماذا تكررت الضفة الغربية عدة مرات في أحاديث ساسة إسرائيل؟ ولماذا كانت إحدى وجهات التهجير لأهالي غزة؟ الأمر الذي أدى إلى تقديم الأردن شكوى للأمم المتحدة في آب/أغسطس 1967، وتحديدًا نتيجة مرور أهالي غزة إليها عبر الضفة الغربية، الذين أشاروا للمعاناة من نقص الغذاء والمعاملة غير الإنسانية من سلطات الاحتلال. الضفة كانت أحد الخيارات، بداية لكون الهدف الإسرائيلي دفع اللاجئين إلى الضفة الشرقية، وهذا أمر صعب من القطاع مباشرة، نتيجة احتلال سيناء الكامل، أي نُظر إلى نقل أهالي غزة نحو الضفة، باعتباره مرحلة ضمن عملية التهجير وليس المستقر النهائي، كما أن الأردن يمكن تحويله إلى بوابة للهجرة، أمّا عبر سيناء فالأمر أعقد نسبيًا. بالإضافة إلى سعي إسرائيل لتفكيك كتلة اللاجئين الكبيرة المتركزة في قطاع غزة، ومع حالة النزوح من الضفة الغربية التي ظهرت بداية الحرب، فإن إسرائيل رأت فيها وجهة مناسبة بشكلٍ مبدئي، لكن بالعموم، كانت الأعداد الكبيرة من اللاجئين، هي القضية الأساسية في رأس أشكول وغيره، والهدف تشتيتها والتقليل منها.

بداية الخطوات العملية

بحسب دراسة يوآف غلبر، بدأت الاتصالات الأولى بشأن استقبال المهاجرين الفلسطينيين من غزة في أميركا اللاتينية بالفعل في تشرين الأول/أكتوبر 1967 في لندن. عبر منظمة الهجرة الدولية (HICEM)، التي نظمت هجرة 150 عائلة إلى أوروغواي. في حينها، ارتبط مشروع التهجير بـ”أصحاب المهن المطلوبة”، وذلك بهدف تهجيرهم دون عودة، وانخرطت منظمة الهجرة اليهودية HIAS أيضًا في القضية وبدأت في فحص خيار البرازيل.  وبحسب الدراسة، في تشرين الثاني/نوفمبر 1967، وافق أشكول على أن تقوم الإدارة العسكرية في غزة بتشجيع هجرة سرية إلى الأردن ومن هناك إلى بقية العالم العربي.

تكشف مشاريع التهجير الإسرائيلية، عن ثنائية البناء/الهدم، وفي حالة القديمة لغزة، تظهر جوانب العملية “التحديثية” ضمن سياق استعماري، إذ دعمت الإدارة العسكرية التعليم المهني، وطلب من الأونروا توسيع تعليم اللغات الأجنبية، من أجل زيادة فرص التهجير إلى دول الخليج وكندا وأستراليا. بالإضافة إلى طرح فكرة إيجاد مصرف لرهن العقارات، بهدف تعليم الأبناء، ودفعهم للهجرة إلى الغرب.

وفي نفس السياق، يظهر جانب الهدم/الإفقار التنموي (Non Development)، إذ في عام 1969، تناول أشكول “مشكلة الاستثمار في تنمية القطاع، خشية من تشجيع بقاء سكانه”، قائلًا: “إذا نظمنا الأمور هناك بحيث تكون منظمة، بحيث تتوفر فرص العمل والصناعة، ونبني المصانع هناك ونوظف العرب هناك ـ فإنهم سيبقون في قطاع غزة”.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل انخرطت الإدارة العسكرية، عبر طاقمها في إنشاء مكاتب سفر، عملت على تنسيق عمليات الهجرة إلى الولايات المتحدة، والبرازيل وباراغواي، وبحسب الإحصائيات فإن غالبية حركة المغادرة التي لم تكن واسعة، كانت من اللاجئين، أو من الأشخاص الذين فشلوا بالحصول على فرص عمل، أي أن الدوافع الأساسية كانت اقتصادية.

مشروع التهجير أو عن “40 مليون ليرة للتخلص من مشكلة غزة”

“كل شخص لا يغادر اليوم، لا يمكننا أن نضمن أنه سيغادر غدًا. كل من يمكننا إرسالهم اليوم، يجب أن نسرع في خروجهم. في غزة هناك 40 ألف عائلة لاجئة. وإذا خُصص ألف ليرة لكل عائلة، يمكننا حل المشكلة. هل توافق على إنهاء قضية غزة بأربعين مليون ليرة؟ برأيي، هذا سعر معقول جدًا”. بهذه الكلمات خاطبت آدا سيريني، مسؤولة لجنة حكومية إسرائيلية، ليفي أشكول، الذي عينها، ضمن أحد الاجتماعات بهدف تهجير أهالي قطاع غزة “دون ترك بصمات حكومية إسرائيلية”.

اختيرت سيريني، لهذا المنصب، نتيجة علاقتها بإيطاليا، وخبرتها في تنظيم الهجرة اليهودية منها إلى فلسطين الانتدابية خلال الحرب العالمية الثانية، وكان أشكول يرغب في فحص إمكانية التهجير إلى مستعمرات إيطاليا السابقة، مثل ليبيا، أو إريتريا، أو الصومال.

مع بداية المشروع، كان ليفي أشكول متشككًا في نجاحه، عرض عدة أزمات فيه، مثل بقاء النساء والفتيات، بالإضافة إلى خشيته من الكشف عن أي بصمة لإسرائيل في المشروع، و”قلقه” من دفع الأموال مقابل الهجرة، مما سيثبط المشروع، وتأجيل مغادرة الناس للقطاع، وكان يُنظر للمشروع بصورة تجارية، مع الخشية من استثمار الأموال وفشل المشروع. ومع ذلك، كان أشكول مهتمًا في القضية، وطلب رؤية آدا سيريني أسبوعيًا، التي كانت أكثر حماسة منه. وفي اجتماع اللجنة التي تأسست في شباط/فبراير 1968، كان التوافق على الحد الأدنى من التدخل في هجرة أهالي غزة، مع إدراك أن “الهجرة الطوعية لن تستمر للأبد”، مما أكد على ضرورة التدخل، كما أن الواقع اختلف عن الاجتماعات ومحاضرها.

خلال عملها، أشارت سيريني إلى أن، الإدارة العسكرية الإسرائيلية، كانت تعمل على مشروع تهجير، من خلال ضباط ومدنيين من موظفي الجيش الإسرائيلي، أي من الجنود معهم مجموعة من العناصر العربية في مخيمات غزّة، للبحث عن المرشحين للهجرة، ودفع تكاليف السفر حال عدم امتلاكهم الأموال. وقالت سيريني: “هذا الأمر لا يحدث من تلقاء نفسه. إنها ليست حركة عفوية”، مطالبة بتعزيز هذه الفرق التي تعمل في المخيمات. يشار إلى أنه في تلك الفترة، كانت الإدارة العسكرية في غزة، وجهاز الشاباك، ويوسف تولدانو من مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، يعملون على مشاريع التهجير، بينما كانت سيريني تعمل على التنسيق مع هذه الأطراف.

وبينما كان أشكول متشككًا في المشروع وبالأخص في دفع الأموال له، وهو أمر لم يكن على علم كامل به أساسًا، كانت سيريني تظهر حماسة أكبر وتضغط أكثر، بالقول: “هل نريد تسريع تدفق المغادرين واستغلال الفرصة وهم في ذروتها، أم أن خوفنا من أنه لاحقًا سيطلبون مبالغ كبيرة جدًا يجعلنا لا نفعل شيئًا؟… حاليًا هناك تدفق للمغادرين، لكن عندما يغادر ألف شخص أسبوعيًا، بالكاد نعوض ذلك بسبب معدل المواليد”، بحسب دراسة يوآف غلبر.

وفي اجتماع آخر، ذاك الذي طرحت فيه سيريني “40 مليون ليرة وتهجير أهالي غزة”، وافق أشكول على مضاعفة عدد العاملين في المشروع ثلاث مرات، مع تحفظه المالي. مع قلق سيريني، من الوصول إلى نهايات شهر آذار/مارس 1968، أي إلى ما بعد معركة الكرامة، التي أدت إلى تخفيض أعداد الهجرة إلى الأردن.

ومن بين القضايا التي نوقشت في الاجتماعات، إمكانية شراء تأشيرات إلى أميركا اللاتينية، ونشطت سيريني في هذه القضية، كما رغبت في توظيف عمال بناء فلسطينيين في شركات دولية تعمل بالدول العربية وبالأخص ليبيا.

كيف فشل المشروع؟

“في السنة الأولى بعد الحرب، غادر غزة بين 50 و70 ألف شخص. وعندما أردنا تسريع خروجهم، توقفت الهجرة تمامًا. أدركت الدول العربية واللاجئون أن هذا جزء من عملية متعمدة”، كان هذا تلخيص، رئيس الإدارة العسكرية في غزة، مردخاي غور، لمشروع التهجير من قطاع غزة في سنوية حرب حزيران/يونيو 1967، وأضاف غور أنه لم يرَ أي احتمال لهجرة كبيرة في المستقبل: “الهجرة من هناك لا تعتمد علينا. يمكننا نقل الناس فقط بالقوة. أما أن يغادروا بمحض إرادتهم، فلن يذهبوا إلى أي مكان. وإذا قرر عدد قليل المغادرة، فإن العالم العربي سيضع عقبات تمنعهم من التحرك”.

مع مرور عام على حرب حزيران/يونيو 1967، وكل النقاشات الإسرائيلية الطويلة حول الأمر، بدأت معالم فشل المشروع تتضح، كان موشيه ديان يتحدث عن خشيانه “فقدان القطار، وافتراضه أن الجسور المخصصة للخروج لن تبقى مفتوحة لفترة طويلة، وما نخسره الآن سيكون مفقودًا إلى الأبد. وإذا أغلقت الجسور، سترتفع تكلفة الهجرة بشكل كبير وستستغرق العملية وقتًا طويلًا. لذلك، من الأفضل استغلال الفرص الآن حتى النهاية”.

من أسباب فشل عملية التهجير، أنه ما بعد عملية الكرامة، ضعفت وتيرة الخروج من قطاع غزة، وبدأ الأردن يشعر بالقلق من العملية، وصار يعيق حركة مرور أهالي قطاع غزة، وأصبح يضع العقبات أمام مشروع التهجير، وبالقوة في بعض الأحيان.

في تلك المرحلة، قبيل نهاية المشروع، كانت سيريني تسعى إلى إنقاذ مشروع التهجير، وزيادة ميزانية تمويل تهجير أهالي غزة، مع التعقيدات الواردة من الأردن، وظهور تأخير في تأشيرات السفر القادمة من البرازيل، وعدم وجود موافقة على استيعاب المهاجرين في بلدان عدة.

وعن عودة نقاش الأموال، قال أشكول: “لا أبكي على الحد الأدنى من المال الذي تم دفعه لأولئك الذين غادروا بالفعل. أنا قلق بشأن الحد الأدنى من الأشخاص الذين سيغادرون مقابل الكثير من المال”. مع خشيته على استنزاف الميزانية الإسرائيلية، بينما أوضح منسق أعمال الحكومة الإسرائيلية في المناطق المحتلة شلومو غازيت وآدا سيريني أن الفكرة كانت الدفع لمقاولي الهجرة، وليس للمهاجرين مباشرة. وذكروا “وجود شيخ في القطاع مستعد لإخراج 5-6 آلاف شخص من القطاع مقابل 200 ليرة للشخص، مما يعادل مليون ليرة إجمالًا. وكان هذا الرقم يمثل عدد المغادرين الشهري خلال ذروة الهجرة من غزة”، وفق دراسة غلبر.

أمّا عن سبب آخر لفشل المشروع، قال رئيس الإدارة العسكرية في غزة: “يرى القادة المحليون في غزة أنه من واجبهم البقاء والتكاثر والحفاظ على قطاع غزة كجيب عربي. حاليًا، الهجرة تعادل معدل الزيادة الطبيعية. سكان غزة يرفضون الاندماج في إسرائيل؛ لأن معظم العائلات لديها أقارب هاجروا إلى الدول العربية وتعتمد على الأموال التي يرسلونها، ويخشون أن يؤدي اندماجهم في إسرائيل إلى قطع صلتهم بأقاربهم”.

وذكر يوآف غلبر في دراسته، أنه في نهاية تموز/يوليو 1968، تم توزيع منشورات في غزة، خاصة في مخيم جباليا، تدعو السكان إلى مقاومة الضغوط الممارسة عليهم للهجرة. وأشار غلبر نقلًا عن مردخاي غور، إلى أنه في الأشهر الأربعة الأخيرة [أي ما قبل آب/أغسطس 1968] قُتل 34 عربيًا تعاونوا مع الإدارة العسكرية، وأن من يغادر القطاع إلى الضفة أو العريش سيتم قتله فورًا.

وتذكر الدراسة، أنه في آب/أغسطس 1968، عبر الجسر إلى الأردن 470 مهاجرًا فقط، أقل من عشرهم من غزة. في المقابل، عبر 900 شخص الجسر غربًا في إطار جمع شمل الأسر، معظمهم إلى الضفة الغربية. وقال موشيه دايان، إن “الهجرة وصلت إلى الصفر. الأردنيون لا يسمحون لسكان غزة بمغادرة القطاع عبر أراضيهم أو إليها”.

استئناف دون نجاح

وبحسب تقرير “هآرتس”، توفي أشكول في عام 1969، واستمرت المداولات من قبل رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير. ولكن في عام 1970 حذر وزير الأمن الإسرائيلي موشيه دايان من التصرف بشكل علني لتشجيع هجرة سكان غزة. وقال: “إذا كنا نعتزم تنفيذ خطة لتهجير 20 ألف شخص، فهذا يعني أننا نعلن عن نقلهم. وبهذا فإننا سنفسد كل شيء منذ البداية… وإذا طلبوا منا المساعدة ـ حسنًا… فسوف تكون عملية بطيئة وطبيعية. وأي شيء مبالغ فيه نقوم به سوف يؤدي إلى فشله”.

تكرر اهتمام رئيسة الوزراء الإسرائيلية مائير بالأمر، في عام 1971، وقالت: إن “الأمر يتعلق بتقليص عدد المخيمات. ولا جدال حول المبدأ”. وفي حينها، كان هناك عمليات تهجير من مخيمات شمال قطاع غزة إلى العريش، قادها ونفذها أريئيل شارون، وبلغت ذروتها في تموز/يوليو من العام ذاته.

وفي أحد الاجتماعات، قالت غولدا مائير: “من الواضح أننا لن نتمكن من تقليص عدد سكان مخيم جباليا طواعية. كان الأمر ليكون أكثر متعة لو فعلنا ذلك طواعية [من جانب الفلسطينيين]. ليس هناك بديل… هذا حقًا قسوة فظيعة، [كما قالت ساخرة] نقلهم إلى شقة… منحهم تعويضات… إذا كان هذا قسوة، فأنا لا أعرف كيف يمكن القيام بشيء مريح. ومع ذلك، ليس هناك شك في أنهم لا يريدون الانتقال”.

وبحسب تقرير “هآرتس”، قال وزير الشؤون الدينية فارهافتيج لمائير: “من الأفضل استخدام القوة إذا كانت هناك حاجة إلى القوة، ولكن فقط في خضم ضجة كبيرة [أي الحرب]. الخروج [أي التهجير] بالقوة الآن، والبدء في سحب اللاجئين إلى الشاحنات، هذه مسألة من شأنها أن تلفت الانتباه إلى حد ما وتسلط الضوء على أرض إسرائيل، ولا أعتقد أننا بحاجة إلى ذلك الآن”.

دفعة أخيرة من إسرائيل

نشوة أكيدة، انتشرت في أوساط سياسية إسرائيلية عديدة بعد طرح ترامب عن تهجير قطاع غزة والاستيلاء عليه، وبين مشروع مر عليه أكثر من 50 عامًا، ومشروع آخر، طرحه ترامب، تتعد طرق ومحاولات التهجير في غزّة. وفي السياق، أفاد المعلق العسكري في صحيفة “هآرتس”، أنه “طوال الحرب في غزة، طلبت إدارة بايدن زيارة قطاع غزة لتقييم الأضرار التي ألحقها الجيش الإسرائيلي. وتقول مصادر أمنية إسرائيلية إن الدمار في غزة هو من بين أسوأ، إن لم يكن الأسوأ من حيث التأثير والمدى، نتيجة الحروب في جميع أنحاء العالم في العقود الأخيرة”.

وأضاف تقرير “هآرتس”: “كان الجيش، بتوجيهات من الحكومة، يميل إلى تجاهل وتأخير مثل هذه الطلبات الدبلوماسية. وفي النهاية، لم يعد أمامه خيار آخر، فاستعان بمسؤولين أميركيين في مركبات مدرعة بلا نوافذ لإظهار أقل قدر ممكن من الدمار”. في أواخر الشهر الماضي، وبعد أن دعا ستيف ويتكوف، المبعوث الخاص للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى الشرق الأوسط، نفسه إلى جولة مماثلة. عقب المعلق العسكري، بالقول: “كانت الأوامر مختلفة تمامًا. فقد أخذه الضباط إلى مناطق حيث كان الدمار شبه كامل. وعندما يقول ترامب.. إن غزة في حالتها الحالية غير صالحة للسكن، ساعدت الرسائل الإسرائيلية في دفعه إلى هذا الاستنتاج”.

المصدر: المفدسي للإعلام + مواقع إلكترونية + وكالات
233
اترك التعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *