مقال: أ. سليمان سعد أبو ستة
يشي تأمل سلوك رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو وحلفائه في الائتلاف الحاكم؛ بإصرارهم على استمرار المعركة الحالية وتصعيدها نحو جبهات أخرى، والعمل على ضمان حرب مستمرة دون توقف.
والأسباب التي تدفع لذلك سياسية داخلية، حيث سيتحمل نتنياهو وحكومته بمجرد وقف الحرب المسؤولية الكبرى عن الإخفاق الكبير في السابع من أكتوبر، خاصة أن الحرب لم تؤدِ حتى اللحظة للقضاء على حماس.
كما أن هنالك أسباب استراتيجية متعلقة بفكر اليمين الحاكم وما يراه فرصة لحسم الصراع والقضاء على الكيانية السياسية الفلسطينية في غزة والضفة.
ويغلب على ظني أن الائتلاف الحاكم الحالي يرى في الحرب غطاءً لمشروع سياسي داخلي، يهدف للسيطرة على مؤسسات الكيان العميقة الأمنية والعسكرية والقضائية، فقد نجح تحت غطاء الحرب في تحقيق ما لم ينجح في تحقيقه قبلها.
حيث أقال وزير الحرب غالانت دون احتجاجات تذكر مقارنة بما جرى في الإقالة الأولى التي تراجع عنها، ثم تخلص من رئيس الأركان هرتسي هاليفي، ويعمل حاليا على إقالة رونين بار رئيس الشاباك والمستشارة القضائية، وإحداث تغييرات كبرى في القوانين المتعلقة بسيطرة الحكومة على القضاء.
ما سبق ليس ادعاءات فلسطينية أو عربية متفائلة فحسب، ولكنها تصورات سياسية عبر عنها العديد من ساسة الكيان الصهيوني وقادته السابقين، ووصل الأمر إلى الحديث كثيرا عن الحرب الأهلية وعن اغتيالات سياسية متوقعة في أي لحظة، آخرها ما صرح به رئيس المعارضة يائير لابيد منسوبا إلى مصادر أمنية مؤكدة، وهو ما قوبل من الائتلاف الحاكم بهجوم مضاد اتهم الجهات الأمنية والقضائية بمحاولة الانقلاب على الحكومة.
هذا الخلاف لا يبدو أنه سيدفع الشارع الصهيوني المعارض لإسقاط الحكومة، لأن كل محاولات المعارضة لإحداث ضغط حقيقي لم تنجح في ذلك، وحراك الشارع ما زال أضعف من المتوقع رغم وجود عشرات الأسرى في يد المقاومة، وسقوط مئات القتلى في صفوف الجيش في غزة ولبنان.
وهذا الفشل في إحداث عمل منظم يغير وجهة الحكومة ويقنعها بوقف الحرب، وهو المطلب الذي ينادي به غالبية الساسة المعارضين، وكثير من قادة المؤسسة الأمنية والعسكرية السابقين، سيدفع معارضي الحكومة لمواقف فردية احتجاجية نابعة من انعدام قناعتهم بما يجري.
جدير بالذكر أن هؤلاء المعارضين للحرب يرون أنفسهم ضحايا حكومة تحملهم كثير من العبء بينما تقلصه على آخرين، فبينما يدفع الليبراليون الضرائب، فإن الحريديم لا يساهمون في ذلك لأنهم متفرغون لدراسة العلوم الدينية اليهودية، ويتلقون مبالغ طائلة في صورة ضمان اجتماعي، كما يتم توزيع الموازنات بطريقة تحافظ على رضا الوزراء أكثر مما تخدم دافعي الضرائب الصهاينة.
وبينما يخدم أبناء الوسط واليسار في قوات الجيش النظامية أو الاحتياط، يتم سن القوانين التي تعفي الحريديم من الخدمة، فقط لضمان بقاء الائتلاف الحاكم واستقراره.
وبعد ذلك لا يتم الاستجابة لمطالب الجنود وأهاليهم المطالبين بوقف الحرب التي استمرت لعام ونصف حتى اللحظة ومن المتوقع أن تستمر طويلا، في سلوك يتناقض مع نظرية الأمن القومي الصهيوني التي نصت على ضرورة الذهاب فقط لحروب خاطفة ومباغتة.
ومن كل ما سبق بات من المرجح أن الحرب الطويلة التي يشنها الكيان لن تتوقف إلا في حال حدوث أحد الاحتمالات التالية: وهي خروج نتنياهو من المشهد، وتفكك ائتلافه الحاكم، أو ضغط كبير من الولايات المتحدة مشفوع بوقف الإمداد العسكري في حال عدم الموافقة الصهيونية، أو عجز قوات الاحتلال ومؤسساته الأمنية عن أداء مهامها لسبب ما.
وقد تشمل هذه الأسباب تكبد قوات الاحتلال خسارات بشرية كبيرة، أو شعورها بالإرهاق الشديد، أو اضطرارها للانتقال لجبهات أخرى، أو تمرد عدد كبير من الجنود والضباط النظاميين أو الاحتياط.
وتشير الأحداث المتسارعة في الكيان إلى أن الاحتمال الأخير يتفاقم بشكل يؤثر على الخطط الميدانية لقوات الاحتلال، ولا يعني هذا أن الاحتلال فقد القدرة على القتل والتدمير، ولكنه فقد القدرة على نشر الكم المطلوب من جنوده في الميدان.
والدليل على ذلك أن خطة زامير التي أُعلنت عند توليه منصبه تقوم على نشر خمس فرق عسكرية بشكل متزامن لاحتلال قطاع غزة كاملا والسيطرة عليه، والقضاء على المقاومة، عبر احتلال يستمر لفترة طويلة.
لكن ما جرى على أرض الواقع كان أقل من ذلك بكثير رغم موقف حماس الأخير الرافض لأي صفقة لا تتضمن شروطها الخمسة، وعلى رأسها وقف الحرب والانسحاب الكامل، فحجم القوات المنتشر على الأرض حسب الشهادات الميدانية الفلسطينية قليل، وهو ما مكن مواطنين من التحرك في مناطق من المفترض أنها تحت سيطرة الاحتلال، وما جرى في كمين بيت حانون يوم 19 إبريل 2025 دليل إضافي على ذلك.
وعند البحث عن أسباب إخفاق خطة زامير نجد أمامنا ما تم تسريبه عن وجود رفض واسع من قبل قوات الاحتياط للعودة إلى الخدمة، لأسباب اجتماعية عائلية، واقتصادية، وأخرى متعلقة بعدم قناعتهم بجدوى المعركة، وأنها تُخاض لأسباب سياسية، وقد تؤدي لقتل الأسرى الصهاينة، وبلا شك فإن هناك مخاوف لدى كثيرين منهم من القتل أو الإصابة بنيران المقاومة.
وقد بينت المصادر الصهيونية أن التأثير لا يقتصر فقط على أعداد من رفضوا الاستجابة لأوامر التجنيد وهم نسبة كبيرة، حيث ذكرت مصادر عبرية أن نسبة المستجيبين فقط 50%، أما القناة 11 فقالت إن 60% من الاحتياط فقط استجابوا لطلبات الخدمة العسكرية، إلا أن التأثيرات الحقيقية تزيد عن هذا العدد لوجود ارتباط بين الجنود والضباط من جانب والتخصصات المختلفة من جانب آخر، فلو غاب عن الخدمة ضابط مثلا وحضر الجنود، فإنه لا يمكن الاستفادة منهم إلا في حال توفير بديل له، وفي حال غياب قائد دبابة لن يتمكن الجيش من الاستفادة من بقية طاقمها.
إضافة إلى ما سبق فإن كثير من الجنود والضباط وقّعوا على عرائض احتجاجية تطالب بوقف الحرب وإطلاق سراح الأسرى بأي ثمن، وهو ما تصاعد تدريجيا وصولا إلى أكثر من 140 ألف عسكري ومدني، بعضهم من وحدات وتخصصات نوعية كالطيارين والعاملين في سلاح الجو، وشعبة الأبحاث، ووحدة 8200، والوحدة الطبية العسكرية.
الأمر الذي قوبل برفض صارم من قبل رئيس الأركان الصهيوني ووزير الحرب ورئيس الحكومة، حيث هددوا بإقالة كل من يوقع على هذه العرائض، وهو ما لم يبدُ أنه تحقق فعليا، وربما استُبدل بضغوط كبيرة، وهو ما نجح مع البعض، حيث أعلن عدد من الموقعين سحب توقيعاتهم.
هذا المسار الذي يشي برفض غير معلن لطريقة إدارة المعركة الحالية، قد يتطور بوتيرة غير فاقعة خلال الفترات القادمة لمزيد من الرفض والاحتجاج، خاصة إذا طالت الحرب واستمرت لسنوات كما يريد نتنياهو.
وقد يقود إلى استقالات واسعة حتى من القوات النظامية والمؤسسات الأمنية، خاصة من الضباط والجنود الذي ينتمون لتيارات إيديولوجية تعارض فكريا مشاريع الائتلاف الحاكم، وذلك كأداة من أدوات الضغط السياسي، التي قد تمتزج بأسباب فردية متعلقة بالطموح الوظيفي، خاصة أن هذا الائتلاف يسعى للسيطرة على الدولة العميقة وإحلال قادة موالين له مكان القادة الحاليين، كما يجري حاليا في الشاباك والجيش.
هذا المسار لن يكون مؤثرا بالشكل المطلوب ما لم يستثمر الفلسطينيون في نقطة ضعف الاحتلال الأساسية وهي خشيته من الخسارة البشرية، وهو ما يدفعه لضخ أعداد كبيرة من الجنود في كل بقعة يتوقع أن تأتي منها الضربة القادمة.
وإذا ما تزايدت أعداد تلك البقاع المحتملة زاد العبء على الجنود، وتصاعد الاستنزاف والإنهاك وتعزز مسار التفكك الذاتي المتدرج، وهنا لابد من لفت الانتباه إلى ما تحدثت به مصادر صهيونية من نقل قوات الاحتياط إلى الضفة والاعتماد على المستوطنين فيها أمنيا، للسماح بضخ القوات النظامية إلى قطاع غزة لتقليص دائرة الاحتجاج في الاحتياط.
هذا يجعل الفلسطينيين أمام فرصة يمكن استثمارها بشكل أفضل، لا يعني ذلك الأمر سريع النتائج وأن الحسم مع العدو قريب، وإنما هو مسار متدرج بطيء، ولكنه استراتيجي ومؤثر.