المطلوب فلسطينيا لوقف حرب الإبادة على قطاع غزة

مقال: أ. سليمان أبو ستة
يطرح بعض الفلسطينيين أفكارا تتلخص في ضرورة تقديم تنازلات حتى لو كانت مؤلمة من أجل وقف حرب الإبادة على قطاع غزة، وقد يكون ذلك معقولا لو كان العدو الذي يحاربنا يريد فعلا الوصول لاتفاق، لكن تأمل سلوك الاحتلال وخطابه يشي بأن لديه إصرارا على استمرار المذبحة، ولن يوقفه شيء حتى لو استسلم الفلسطينيون -افتراضا- عن بكرة أبيهم، بل سيرى في ذلك فرصة لتصعيد وتيرة الذبح دون أي تكاليف حتى تلك المتعلقة بارتفاع الصوت الصارخ بحقيقة ما يجري، لأنه عندئذ سيحجب ذلك الصوت ضمن شروطه لقبول الاستسلام.

يمكن استقراء هذا بشكل واضح في السلوك الميداني للعدو، والذي بات على استعداد للمخاطرة بكل الأسس التي قام عليها كيانه من أجل مواصلة الإبادة، ومن هذه ما يتعلق بنظريته للأمن القومي، مثل مبدأ الحرب الخاطفة، أو ما يتعلق بأهمية الإنسان الذي ينتمي لهذا الكيان وهي الفكرة التي طالما تغنوا بها، حيث يتم التخلي عن الأسرى الإسرائيليين بمنتهى الفجاجة، أو ما يتعلق بصورته الذهنية لدى الغرب الداعم له، حتى باتت أصوات الانتقاد الموجهة له من دول كأسبانيا والنرويج وفرنسا أعلى بكثير من أصوات كثير من الأنظمة العربية.

أما من ناحية الخطاب، فلقد أكد نتنياهو في خطابه قبل أيام أن الحرب لن تتوقف إلا بتسليم السلاح، ونفي قادة المقاومة، ومن ثم تطبيق خطة ترامب، وهو ما يعني القضاء على قطاع غزة ليس ككتلة مقاومة فقط، وإنما ككتلة بشرية فلسطينية متجذرة على جزء أساسي من أرض فلسطين.

كما أكد المكلف بمنصب رئيس الشاباك ديفيد زيني أنه لا مجال لصفقات وأن كيانه يخوض حربا أبدية، وهو ما ووجه باعتراض كبير من أهالي الأسرى الإسرائيليين، دون أن يعني ذلك وجود رفض لفكرة القضاء على قطاع غزة برمته، فلقد أظهر استطلاع رأي لجمهور الاحتلال تأييد 82% من الإسرائيليين لتهجير سكان قطاع غزة.

ما سبق يعني أن القضية لا تتعلق بمرونة المفاوض الفلسطيني، ولا بتعنت المقاومة، ولا بعدم اعتراف العالم بشرعية حماس كمفاوض، وبالتالي لو تم استبدالها بالسلطة مثلا سيتغير الأمر، بل الأمر كله متعلق بالاحتلال، وتقديري أن نتنياهو قد حسم أمره بمواصلة الحرب في غزة لسنوات طوال، وهذا يدفعنا للتفكير فيما هو مطلوب منا فلسطينيا لإجبار الاحتلال على وقف هذه الإبادة.

والحقيقة أن الفلسطينيين جميعا -إلا قليلا من الأبطال الأفراد- تخلوا عن قطاع غزة وتركوه يواجه مصيره وحيدا، فهل يعقل ألّا تواجه حرب الإبادة الأكبر في تاريخ شعبنا بانتفاضة شعبية وعسكرية كبرى، تطارد الاحتلال في كل مكان داخل فلسطين وعلى حدودها.

والسؤال أين الفلسطينيون الذين ثاروا لقتل عدد من العمال في جباليا في الانتفاضة الأولى، وأين هم الفلسطينيون الذين ثاروا لاقتحام شارون للمسجد الأقصى، وأين من خرجوا في القدس في هبة البوابات الإلكترونية أو باب الرحمة، وأين أهلنا في الداخل الذين لعبوا دورا بارزا في معركة سيف القدس، وأين الفلسطينيون الذين واجهوا الاحتلال في الأردن في معركة الكرامة، وفي لبنان في السبعينيات والثمانينات، أين هؤلاء جميعا.

والملفت أن كثيرا من الفلسطينيين انتقلوا من ممارسة الفعل السياسي الحقيقي إلى الفعل الإعلامي، فبدلا من التركيز على الفعل المؤثر أو التباحث فيما يمكن أن نقوم به، نجد أن الكل منشغل في توصيف الحالة التي يعيشها الفلسطينيون، والكل يتحدث بحكمة رجعية عن صوابية أو عدم صوابية ما تم في السابع من أكتوبر.

وهذا خطأ كبير في تقديري لأن المطلوب حاليا ليس محاكمة المقاومة، وليس الدفع باتجاه خيارات سياسية غير ملحة مثل وحدانية التمثيل الفلسطيني والوحدة الوطنية وما شابه، المطلوب فعليا البدء بالضغط على الاحتلال بكل الوسائل الممكنة، فكل جندي نجبر الاحتلال على نشره في بقعة ما من فلسطين هو تقليص في أعداد الجنود الذين يمارسون القتل الآن في غزة.

ولمزيد من التفصيل دعنا نرصد ما تقوم به السلطة الفلسطينية وحركة فتح في الضفة سنجد أنها كانت طوال الحرب منشغلة بأحداث لا تمثل أولوية في ظل حرب الإبادة، فنجد السلطة مثلا تقوم بتفكيك العبوات الناسفة في مخيم جنين، والسؤال لو افترضنا جدلا أن هذا الفعل صائب وطنيا، هل هذا وقته في ظل الإبادة، ونجد السيد محمود عباس يتوجه للبنان للاجتماع بالرئيس اللبناني لمناقشة نزع سلاح المخيمات، والسؤال مرة أخرى هل هذا وقته، هل هذا ما يجب أن ينشغل به رئيس شعب يواجه أكبر إبادة في تاريخه، ألا يمكن تأجيل تلك الخطوة لما بعد انتهاء الحرب لصالح الانشغال بأولويات أكثر إلحاحا.

وعند البحث في الخطوات التي يمكن أن تقوم بها السلطة لمواجهة حرب الإبادة سنجد كثير من الأفعال التي يمكن القيام بها، لماذا لم يدع عباس مثلا الفلسطينيين في لبنان للخروج في مظاهرات عارمة مدنية يقودها شخصيا، لوقف حرب الإبادة في غزة، وهو ما يمكن أن يقوم به في كل مكان يتواجد به فلسطينيون، وهذا مثال صغير لعشرات الخطوات الإعلامية والقانونية والديبلوماسية والجماهيرية والسياسية التي يمكن القيام بها في إطار ما تطلق عليه السلطة المقاومة غير المسلحة.

هذا عن السلطة، فماذا عن الفصائل، لدينا على الأقل ستة عشر فصيلا فلسطينيا، أين هي، وأين جماهيرها وأين خططها لمواجهة الاحتلال في الضفة، ليس عسكريا، دعونا نتحدث مدنيا، كم شارع للمستوطنين تم إغلاقه، كم مظاهرة جماهيرية حاشدة تحركت للاشتباك بالحجارة مع حواجز الاحتلال التي يقارب عددها ألفا، كم بؤرة استيطانية أجبرنا الاحتلال على تحريك جنوده لتكثيف الحراسة عليها، وما جرى في جبل صبيح قبل سنوات قلائل مثال يُمكن أن يحتذى في مئات المواقع في الضفة.

ثم أين هي النقابات الفلسطينية في الضفة، نقابة الأطباء والمهندسين والمعلمين، هل هي أجسام حية وقادرة على التأثير، وأنا هنا لا انتقد، أنا فقط أطرح تساؤلات تحتاج إلى إجابة شافية تشخص نقاط ضعفنا؛ للبحث في سبل علاجها وتغيير واقعنا.

أهلنا في الداخل، الحركة الإسلامية ورموزها، وأحزابنا الفلسطينية المختلفة، ونخبنا الوطنية، وشبابنا الثائرون، أين هؤلاء؟ لماذا لم يتحركوا في مظاهرات واسعة تغلق شوارع، وتثير اضطرابا لدى الاحتلال، لماذا لا يتم رفع الصوت بفعاليات ناعمة وخشنة تجبر الاحتلال على نشر جنوده من النقب جنوبا إلى يافا وحيفا في الشمال.

الفلسطينيون في الأردن وعددهم ملايين، لماذا لا نسمع لهم صوت، لماذا لا يتحركون إلى الحدود مع فلسطين المحتلة، حاملين معهم أرغفة الخبز ليقولوا للنظام والعالم كله نحن ذاهبون لإنقاذ أهلنا من الجوع، ألن يدفع هذا الاحتلال للاستنفار، والعالم للشعور بفداحة خطر الفوضى التي يمكن أن تنجم عن استمرار الإبادة.

وما سبق ينطبق على الفلسطينيين في كل مكان، هل ما نراه في العالم اليوم يشير إلى فعالية واضحة لسبعة ملايين فلسطيني منتشرين في الأرض، لماذا لم ننجح في تنظيم أنفسنا بشكل حقيقي لنكون قادرين على الفعل الضاغط.

لقد أثبتت حرب الإبادة على غزة أن خزان الفعل الفلسطيني المقاوم كان غزة وحدها، ولم ينجح كثير من الفلسطينيين لأسباب مختلفة حتى في اللحاق بها وإسنادها على الأقل، وهو ما يجب أن يدفع الجميع لضرورة التفكير في كيفية تغيير الواقع من أجل الكل الوطني الفلسطيني قبل أن يكون من أجل غزة.

وأنني لأرجو كل فلسطيني أن يتوقف عن الحديث فيما مضى ويؤجله لما بعد انتهاء حرب الإبادة، ليتركز قولنا وفعلنا على ما هو المطلوب من كل فلسطيني خارج غزة للضغط على الاحتلال وحلفائه بكل الوسائل والأشكال لإجبارهم على وقف حرب الإبادة، لا تطلبوا من غزة شيئا، فهي الأعلم بما يمكن أن تقوم به.

واجعلوا نقاشكم واستفساراتكم، ماذا علينا أن نفعل، ماذا على الضفة، ماذا على القدس، ماذا على الداخل، ماذا على الشتات، ماذا على الفصائل، ماذا على النخب؟ فنحن نتحدث بينما يموت صغارنا من الجوع في أكبر حملة تجويع شهدها التاريخ، فضلا عن إبادة غير مسبوقة بحق مليوني مواطن يواجهون بأعتى أنواع القنابل الأمريكية.

12
اترك التعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المشاركات الأخيرة: