موسم الهجوم على حماس.. ماذا لو تنازلت عن كل شيء

مقال: أ. سليمان أبو ستة

أود الإشارة بداية إلى أن الكلام في هذا المقال لا يستهدف أبدا المواطنين الفلسطينيين داخل قطاع غزة، سواءً من يؤيد حماس أو يعارضها، يمدحها أو يشتمها، فلقد احتمل شعبنا في قطاع غزة من الأذى ما لم يسجل في أي من كتب التاريخ، وأنا الذي أزعم أني قرأت منها ما لا بأس به، وشعبنا في غزة هو البطل الوحيد في هذه الملحمة البطولية التي سيسجلها التاريخ كواحدة من أكبر الإبادات العنصرية التي تعرضت لها الشعوب دون أن تنكسر أو تستسلم.

إنما يستهدف هذا المقال من يهاجمون حماس انطلاقا من منصات خارج غزة، وأنا عموما لا أرى حرجا في نقد أي فاعل سياسي، لكني أظن أن المسألة تحولت من نقد إلى محاولة لتبرئة الذات من عجزها عن إنقاذ الضحية بالهجوم عليها واتهامها بالتسبب فيما وصلت إليه من حال.

كما أنه من المهم ثانيا التنبه إلى قضية في غاية الأهمية وهي أن الهجوم على حماس اليوم يأتي بحكمة رجعية، وكثير من المتحدثين اليوم لو سُئل عن السيناريوهات المتوقعة في اليوم التالي للسابع من أكتوبر لما توقع كثيرا مما جرى، خاصة إذا علمنا أن غالبية مراكز الأبحاث توقعت أن الحرب ستنتهي خلال ثلاثة أشهر.

ثالثا؛ يصور المهاجمون أن حماس أخطأت خطأ كبيرا في السابع من أكتوبر، والحقيقة أن تقييم السابع من أكتوبر وما بعده لن يكون دقيقا إلا بعد رؤية آثاره القريبة والبعيدة بعيد سنوات قليلة أو كثيرة، فكثيرون لاموا الثورة السورية عندما تصاعدت المجازر، ولكننا يمكن أن نقول بثقة كبيرة اليوم بعد سقوط النظام أن تلك الأصوات استعجلت الحكم.

ولكن ما ينبغي تسجيله من الناحية المبدئية، وأنا لا أنكر ضرورة المزواجة بين نبل المبادئ وإكراهات الواقع، وهذه المزاوجة هي مدار النقاش حول الصواب والخطأ في الفعل السياسي.

من الناحية المبدئية حماس لم تخطئ في السابع من أكتوبر وإنما قامت بواحد من أهم واجباتها الوطنية، وعندما صمدت ولم تنكسر أو تتراجع قامت بواحد من أهم واجباتها، ومن أخطأوا فعلا هم من تخلوا عن أدوارهم، وواجباتهم الوطنية.

والتاريخ لن يحكم فقط على ما قامت به حماس، وإنما ستحكم على ما لم تقم به السلطة وفتح باعتبارها المكون الفلسطيني الكبير، وعلى ما لم تقم به الضفة، وعلى ما يقم به الفلسطينيون في الداخل، وعلى ما لم يقم به الفلسطينيون في الشتات، وعلى ما لم تقم به الأنظمة العربية، وعلى ما لم تقم به الأمة شعوبا ونخبا.

فكما أن حماس مسؤولة عما فعلت، فهؤلاء مسؤولون عما لم يفعلوا من واجبات، وكما وجدت أوكرانيا خلفها أمة مهولة تساندها، كان المفترض أن تجد غزة وحماس من ورائها أمة تساندها بكل أشكال الإسناد.

هذه الأمة بكل مكوناتها الفلسطينية وغير الفلسطينية هي من يستحق اللوم والعتاب، ولنفترض جدلا أن حماس هي أسوأ شيء في التاريخ البشري، ولم تكن يوما حركة وطنية نبيلة، وأنها تبحث فقط عن مصالحها الضيقة، فهل يبرر ذلك للبشر جميعا الصمت على هذه الإبادة، وهل يبرر هذا للعدو جرائمه، ويبرر للآخرين تجاهل ذلك عبر تحميل الضحية المسؤولية عن جريمة كبرى تُرتكب بحقها من عدو بلا أي ضمير أو أخلاق.

والآن لو تخيلنا أن حماس استجابت لضغوط هؤلاء المنتقدين، وما أكثرهم اليوم على مختلف الصفحات والمنصات والشاشات، وتراجعت -كما يقولون- لنزع ذرائع الاحتلال، وأنا شخصيا ومن خلال تأملي لكثير من التجارب الإنسانية لم أر في التراجع إلا إغراء للعدو بالذهاب نحو مزيد من الضغط وصولا للقضاء التام على من تراجع.

وواهم من تصور أن أي عدو قاتل سيقبل بتراجع جزئي من خصمه، بل تقول الشواهد كلها أن عدوك سيقضي على جزء منك كلما تراجعت ثم يطالب بالمزيد من التراجع ليقضي على جزء آخر، وهكذا حتى تنتهي تماما.

ومع ذلك لو افترضنا أن حماس قبلت بمزيد من التنازلات والتراجع، فإننا أمام احتمالين يفضي أولهما إلى الثاني لا محالة، والأول هو تراجع جزئي تقدم خلاله الحركة مزيدا من التنازلات في إطار المفاوضات، والثاني تراجع كلي، بمعنى الاعتراف بالهزيمة والاستسلام التام للاحتلال ليفعل بالحركة وكوادرها وبغزة وأهلها ما شاء.

إذا بحثنا في السيناريو الأول سنجد أن الأمر سينتهي بحصول الاحتلال على أسراه جميعا، عبر صفقات جزئية، يوهم فيها الوسطاء حماس بأن مرونتها ستفضي إلى تراجع إسرائيلي، وأنه لابد من نزع ذرائعه، علما أن هذه الذرائع لا نهاية لها، فما أسهل أن يتم اختراعها.

فإذا ما تسلم الاحتلال أسراه دون انسحاب من غزة ودون عودة المواطنين إلى بيوتهم، فإنه سيعود للقتل والتجويع بذريعة سلاح المقاومة وإذا ما تم نزعه، سيستمر أيضا في القتل والتجويع وصولا إلى القضاء على الوجود الفلسطيني في غزة، بحيث سيصبح التهجير أفضل الخيارات وأحسنها، لأن جرائم الاحتلال ستكون أكبر وأقسى، وهذا الكلام ليس رجما بالغيب، هذه هي خطة نتنياهو المعلنة التي طالب فيها عبر مؤتمر رآه العالم كله بنفي قيادات المقاومة وتسليم السلاح، فإذا حدث ذلك سيتم تطبيق خطة ترامب، والتي تعني: غزة بلا سكان.

وهذا ينقلنا إلى السناريو الثاني، وهو الاستسلام التام، وحل حماس لنفسها، وتخليها عن دورها الوطني، وتسليم الأسرى والسلاح ودعوة العالم لتحمل مسؤولياته تجاه غزة.

لو حدث ذلك، ما الذي سيجري في هذه الحالة، هل ستتوقف إسرائيل وتقول شكرا لحماس، بل ستطالب بالتأكد من حقيقة الأمر وستقوم بفرز الناس إلى قسمين، مقاوم وغير مقاوم، وستعمل على إبادة أكبر كم ممكن من المواطنين بالإعدامات الميدانية، وستحقق بأسوأ صورة ممكنة مع عشرات الآلاف لانتزاع كل معلومة منهم بأبشع وسيلة ممكنة، وكل ذلك لتتأكد من تسليم السلاح، فالذرائع لا تنتهي كما قلت، وستأخذ النساء والأطفال رهائن حتى يستسلم الرجال الذين تريد استسلامهم.

ستنشئ إسرائيل في غزة معسكرات اعتقال يرى فيها الناس ما لم يروه حتى اللحظة من الجوع والحرمان، لأنها ستشبه تماما سديه تيمان، حتى الكاميرا التي تنقل الصورة سيتم وقف بثها في حالة الاستسلام.

وسيتوقف صوت الصراخ الذي يسمعه العالم، ويزعج الجميع ويدفعهم للتحرك، ستختفي غزة عن رادار العالم تماما لسنوات طويلة، سترتكب فيها إبادات كثيرة مشابهة لما جرى حتى اللحظة، ولكن بصمت ودون أن يعلم أحد، حتى أهالي المواطنين خارج غزة لن يعرفوا ما الذي يجري مع أهلهم، سيتم تجنيد آلاف العملاء من ضعاف النفوس بكل أدوات الإكراه، سيصبح مشروع التهجير حلما بعيد المنال.

ومن راجع التاريخ سيجد هذا مصير كثيرين ظنوا أن الاستسلام منجي، وما فعله نابليون بونابرت بيافا التي استسلمت أكثر بكثير مما جرى في عكا التي صمدت، ولا يزعمن أحد أن الاحتلال سيلتزم باتفاق، ستكون المذابح بلا حدود وبلا خبر على الشاشات.

الخلاصة التي آراها وأنا ناصح أمين لشعبي ومقاومته أن ثمن المواجهة كبير دون شك، مؤلم كأشد ما يكون الألم، تحترق لرؤيته كل القلوب الحرة، لكن ثمن التراجع أكبر بكثير جدا جدا، نحن لا نتراجع أمام بشر، نحن نتراجع أمام سموتريتش وبن غفير، اللذين ليس لهما من الإنسانية نصيب، وحوش استولوا على أعتى تكنولوجيا السلاح، ولن يتورعوا عن استخدامها مهما تراجعنا أو تنازلنا.

57
اترك التعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المشاركات الأخيرة: