مقال: أ. سليمان أبو ستة
تتراوح السيناريوهات المحتملة بعد الضربة الإسرائيلية ما بين ذهاب إيران لامتصاص الضربة والدخول في تسوية ما على غرار ما قام به حزب الله في لبنان، وما بين ذهابها لحرب مفتوحة تشعل المنطقة العربية برمتها، وذلك عبر تفعيل كل قدراتها الخاصة وقدرات حلفائها في العديد من دول الإقليم، بما في ذلك استثمار القدرات الكبيرة المتبقية لدى حزب الله، وما بين هذين الاحتمالاين تظهر مجموعة كبيرة من السيناريوهات التي قد تتطور إليها الأمور بعد ضربة الثالث عشر من يونيو.
وتتحكم في ردة الفعل الإيرانية مجموعة من المحددات التي ستكون فاصلة في موقفها، ومن أهم هذه المحددات ما يلي:
أولا: الإرادة السياسية لدى النظام الإيراني، وهي في غاية الأهمية لأنني أظن بأن الضربات الإسرائيلية لإيران مهما كانت كبيرة إلا أنها لا تستطيع أبدا تدمير القدرات العسكرية الإيرانية، ولا حتى مراكز السيطرة، نظرا لأن إيران دولة كبيرة وعريقة ولديها تاريخ طويل من العمل العسكري والاستراتيجي، ولأن الشواهد تدلل على أمر يغيب عن بال الكثيرين وهو أن تدمير جزء من قدرات أي دولة أو جماعة لا يضمن تلقائيا استسلامها، وما نراه في غزة نموذج على ذلك، فمع فارق الإمكانات دون شك إلا أن حماس لم تستسلم عقب اغتيال كل قيادتها السياسية والعسكرية والأمنية في غزة، وما زالت تقاوم.
خاصة إذا أدركنا أن إسرائيل – وهو ما ظهر في طوفان الأقصى – تملك قدرات نوعية أمنية وعسكرية غاية في الدقة لكن قدرتها على حسم معركة طويلة غير ممكن، فها هي عاجزة عن توفير ما تحتاج إليه من جنود لإنجاح خطتها ضد غزة، وتلجأ بدلا من ذلك للتدمير والقتل الإجرامي.
ومن المهم التأكيد على أن ثمار الضربة الإسرائيلية المباغتة هي الأكبر لصالحها، ولن تكون الضربات التالية إلا أقل تأثيرا بدون شك، إلا إذا نجحت المنظومة الأمنية الإسرائيلية في تطوير ضرباتها وتكثيفها؛ وصولا لاغتيال قيادات إيرانية أكثر أهمية مثل المرشد الأعلى للثورة على سبيل المثال.
وخلاصة ما سبق أن إيران لديها القدرة العسكرية على إيلام إسرائيل، والدخول معها في مواجهة مفتوحة وطويلة؛ على غرار ما يقوم به الحوثيون في اليمن، فلقد كان الفارق الأساسي بين حزب الله اللبناني والحوثيين، فقط في توفر الإرادة السياسية لاستمرار المواجهة وتحمل أثمانها مهما كانت باهظة.
فهل يملك النظام الإيراني هذه الإرادة السياسية التي تشمل استعدادا بالغا للتضحية والاستعداد لكل الاحتمالات، بما في ذلك توفير أجيال متتالية من القادة السياسيين والعسكريين والأمنيين القادرين على تعويض كل خسارة محتملة في القادة، على غرار ما نجحت فيه حماس حتى اللحظة، بما يضمن امتلاء أي فراغ بشكل سريع جدا وبالجودة السابقة ذاتها.
ثانيا: حجم القدرات النوعية الإيرانية، ذلك أننا نسمع منذ سنوات من الإيرانيين نجاحهم في تطوير قدراتهم العسكرية الصاروخية بشكل كبير، وأن لديها مدن صواريخ تحت الأرض وفي مناطق متباينة، ولكننا لم نكن يوما قادرين على الجزم بدقة التصريحات الإيرانية، لكنها اليوم أمام اختبار الحقيقة، هل تملك القدرات النوعية القادرة على عقاب إسرائيل وردعها، بالكم والكيف المطلوبين.
وذلك لأن أي رد إيراني سيقابل أساسا برد إسرائيلي أعنف لإجبار إيران على وقف المعركة في النقطة التي تراها إسرائيل مناسبة لها، وإلا ستذهب الأمور إلى حرب استنزاف طويلة، لن تكون أبدا في صالح إسرائيل، خاصة إذا استمرت لسنوات، وهنا قد تذهب إسرائيل لخيارات أكثر تطرفا مثل استخدام سلاح نووي في ضرب إيران لحسم الصراع معها كليا.
ومن أهم القدرات الإيرانية النوعية قدراتها النووية، التي إن كانت موجودة ولم تتضرر فإن إيران أمام فرصة ذهبية للتحول من النووي للاستخدام المدني إلى صناعة القنبلة النووية، والإعلان عن ذلك فعلا كرد على الهجوم الإسرائيلي، وبالتالي تضع الجميع أمام الأمر الواقع، ولن تخسر كثيرا في هذه الحالة، لأن الضربة المعادية قد تمت فعلا.
ثالثا: ردة الفعل الداخلية في إيران، وهذا الأمر من أهم المحددات المتحكمة في المشهد القادم، والداخل الإيراني ينقسم إلى قسم موالي للنظام، والسؤال هل لهذا القسم الصبر والاستعداد للتضحية بما يكفي للاستمرار في دعم النظام وتحمل أعباء الحرب مهما كانت قاسية، والمساهمة في حماية الداخل الإيراني عبر تشكيل أجسام تحفظ الأمن وتوفر احتياجات المواطنين وتضمن سير الحياة اليومية بشكل منتظم، بما في ذلك الدفاع المدني والشرطة والخدمات الصحية وتوفير الغذاء والإغاثة وحماية الأمن الداخلي، والدفاع عن الحدود، ومواجهة الشغب المدعوم خارجيا، ومكافحة الجريمة في حال استمرار الحرب لفترة طويلة، وازدياد الضغوط على المجتمع.
والقسم الآخر في المجتمع الإيراني هو الجزء المعادي للثورة، ويمثل فيما يبدو لي جزءا مهما من المجموع الإيراني، وعلى ذلك شواهد منها وجود مظاهرات معارضة قوية للنظام في مناسبات مختلفة، وحجم الاختراق الكبير لإيران أمنيا، وهو ما قد يشي بوجود أطراف داخلية تساعد الخارج لأسباب إيديولوجية أكثر منها أسباب متعلقة بالخيانة.
فما هو موقف المعارضة الإيرانية من تعرض بلدهم لهجوم خارجي، هل سيتم تغليب المصالح العليا للوطن والانخراط مع النظام في مواجهة العدوان، أم سترى فيما يجري فرصة تتعاون فيها مع الخارج لإسقاط النظام.
وهذه القضية في غاية الأهمية في تقرير مصير إيران في حال استمرار الحرب، مع التأكيد أنها ليست مرتبطة فقط باستعداد المعارضة للعمل على إسقاط النظام، وإنما مرتبطة أيضا باستعداد أنصار النظام لحمايته والدفاع عنه مهما كلف الثمن، وقدرتهم العملية على ذلك.
رابعا: ردة فعل حلفاء إيران الإقليميين، حيث تمتلك إيران شبكة من التحالفات الممتدة من فلسطين إلى لبنان إلى العراق واليمن ومناطق أخرى، والسؤال هنا ما هو استعداد هؤلاء الحلفاء للانخراط في المعركة ولأي مدى، وما هي قدرتهم على تكبيد إسرائيل وحلفائها خسارة كبيرة، خاصة حزب الله في لبنان، والجماعات العراقية الموالية لإيران، وأنا اختلف كثيرا مع من يرى أن حزب الله فقد القدرة على الفعل في مواجهة إسرائيل، بل أتوقع أن لديه القدرة على ذلك، ويبقى السؤال فقط متعلق بالإرادة السياسية للانخراط في المواجهة.
خامسا: تأثير الحرب على أسواق الطاقة العالمية وحركة البضائع في المنطقة العربية، حيث من المهم أن نتوقع أن تؤثر الحرب في إحدى سيناريوهاتها على أسواق الطاقة، فقد تتدحرج الأمور وصولا لمنع حركة ناقلات النفط في المنطقة، أو قد تصل حتى لتدمير مصادر إنتاج النفط والغاز في المنطقة العربية.
وقد تتحول المياه في المنقطة إلى مكان غير آمن بتاتا لحركة السفن التجارية، وهذا سيضر بالمنطقة، وسيضر بالعديد من الدول الكبرى، وربما كانت الصين من المتضررين الرئيسيين باعتبارها واحدا من أكبر مستوري النفط العربي، كما ستتضرر أوروبا بشكل كبير خاصة في ظل استمرار الحرب الأوكرانية.
فكيف سيستقبل العالم هذه التأثيرات، وكيف ستكون تداعياتها التي أتوقع أن تؤدي لسقوط أنظمة في المنطقة إذا لم يتم إسنادها ماليا بشكل كبير، وستكون كل هذه التداعيات مهمة جدا في التأثير على شكل الحرب ومدتها.
سادسا: مواقف الدول الكبرى ورود أفعالها، فهل ستسمح الصين مثلا بسقوط النظام في حالة تدهور الأمور، أم ستسارع لمده وهو الحليف الاستراتيجي بأسلحة نوعية على غرار ما رأيناه في مواجهة باكستان للهجوم الهندي، حيث أثبت السلاح الصيني فعاليته.
وما هو موقف روسيا في حال ذهاب إسرائيل مثلا لخيار استخدام السلاح النووي، وما هي مواقف حلفاء إسرائيل نفسها كالدول الأوروبية في حال تضرر مصالحهم بشكل كبير، وإلى مدى لدى حلفاء إسرائيل الاستعداد للسماح لها بحرية الفعل وصولا لخيارات “يوم القيامة” في حال إصرار إيران على مواجهة إسرائيل مهما كان الثمن.
كانت تلك أهم المحددات التي ستتحكم في مسار الأحداث بدءا من اللحظة التي انطلقت فيها شرارة الضربة الإسرائيلية وصولا إلى نهاية المواجهة التي يبدو أنها باتت محتومة.