شرق أوسط تحت شرط الجدار الحديدي

مقال: باسل رزق الله

كلما انحسرت حرب في المنطقة، يذهب نتنياهو الذي صار مهووسًا بالحرب الأبدية إلى واحدة أخرى، أكبر وأوسع، وفي أشكال عدوانية مختلفة، مبدلًا بين الجبهات الرئيسية والثانوية. وفي حزيران قبل ما يزيد عن 50 عامًا، وبينما كانت الحرب خيار الجنرالات في الجيش والجنرالات في السياسة الإسرائيلية، بدلًا من أي تحرك سياسي، فإنها الآن خيار نتنياهو القادم من القوات الخاصة، في حزيران آخر، والذي اختار خوضها جوًا ومن ملجأ محصن، بدلًا من قيادتها على تخوم الصحراء.

يواصل نتنياهو توتير المنطقة ودفعها إلى الحافة في كل مرة، وعلى عادته يدخل الحروب دون خطة خروج. ومثل كل مرة، يعود التعويل مجددًا في التحليلات على الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي لعب لعبة نتنياهو في التضليل رغم خطابه عن صنع السلام ورغبته بالتفاوض. ربط ترامب نفسه بالضربة الإسرائيلية، وقابل كافة وسائل الإعلام العالمية في مكالمات هاتفية قصيرة، ليقول إنه “كان يعرف”، وإن إيران تجاوزت الـ60 يومًا خاصته، وليمرر إعجابه حتى بـ”القوة” الإسرائيلية، كل هذا دون تمرير أي كلمة تقريبًا عن نتنياهو. ولاحقًا طالب بإخلاء طهران، ومن ثم عاد للتأكيد على عدم التورط في الضربات، لكنه أشار إلى إمكانية الانخراط في المواجهة، وهذه رغبة نتنياهو حقيقة، وربما يراهن على استعراض القوة الحالي من أجل إغواء ترامب للانخراط في الحرب. لكن الرئيس الأميركي يواصل الاقتراب والابتعاد عن الهجوم الإسرائيلي باستمرار.

في الغرف المغلقة، فإن نتنياهو يتحدث عن “تغيرات تاريخية سيظل الحديث عنها مستمرًا لأجيال”، مع تصريحات عدوانية أكثر من الجيش

على أي حال، يعيش نتنياهو نشوة قوة، يعبر عنها بالقول: “في القريب العاجل سترون طائرات تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي تحلق في سماء طهران. سنضرب كل موقع وهدف لنظام آيات الله”. كما تطرق إلى البرنامج الإيراني الصاروخي الذي يعد أحد أهداف الضربة الإسرائيلية، وهذه تصريحات وسلوكيات تظهر محاولة إسرائيلية لهندسة أو إعادة هندسة مجالها الحيوي في المنطقة، بهدف وحيد هو السيطرة التامة. فالأمر يتجاوز القضاء على التهديدات ويتجاهل حلفاء تل أبيب الذين يحرسونها بالمعاهدات ومصالحهم أيضًا.

ورغم كثافة الغارات الإسرائيلية، غير المسبوقة، وضرب أهداف نووية وعسكرية وقصف مناطق سكنية وضرب تسلسل القيادة في قطاعات عسكرية إيرانية، إلّا أنّ الضربات الإسرائيلية لن توقف المشروع النووي، أقله بحسب التعليقات الإسرائيلية، بما فيها تلك الرسمية الصادرة عن مستشار الأمن القومي الإسرائيلي.

وعلى عادته، دعا نتنياهو إلى انتفاضة في طهران (مستشاره السياسي فعلها أيضًا ولكن حذف تغريدته)، كما سبق وفعلها في لبنان وغزة، وحاول نسب سقوط الأسد إلى نفسه، وهي عادته/طموحه في محاولة تجاوز أهدافه العسكرية، بل إعادة تشكيل النظام والمنطقة. هذه التصريحات تظهر ازدراء وغطرسة، ولو خفت حضورها بعد لحظات الحماسة الإسرائيلية الأولى، لكنها قد تتجاوز ذلك وتصبح هدفًا إسرائيليًا حال طالت الحرب، بدون مشاركة أميركية، خاصةً مع التقارير التي تحدثت عن طرح تل أبيب على واشنطن اغتيال المرشد الإيراني.

ومع مرور الوقت، أصبح نتنياهو أكثر صراحة في الحديث عن إمكانية إسقاط النظام، وصار الجيش الإسرائيلي يشير إلى ذلك بعد امتناعه عن أي تلميحات سياسية، كما بدأ نمط القصف الإسرائيلي يتحول نحو ضرب أهداف تشكل نواة أو أدوات للحكم في إيران، مع تزايد التقديرات بأن إيقاف المشروع النووي الإيراني، لن يحدث إلا نتيجة قرار، ويرجح بأن ذلك سيكون نتيجة تحول سياسي. ويمكن النظر إلى هذا الأمر باعتباره هدف نتنياهو، المهموم بما ستكتبه عنه كتب التاريخ، نظرًا لكون التقديرات تقلل من كون إيران كانت تسعى للحصول على سلاح نووي قريبًا.

في نفس الوقت، كان وزير الأمن الإسرائيلي، يهدد بـ”حرق طهران”، وبعد ساعات أعلن عن ذلك في أعقاب قصف الجيش الإسرائيلي محطات الوقود في طهران (تراجع عنها خشية على صورة إسرائيل، مع الإشارة إلى أن كاتس يحاول دائمًا إثبات أهميته)، ولاحقًا قال: “قانون طهران هو قانون بيروت”. وتصريحات إحراق طهران، كررها نتنياهو أيضًا، الذي تفاخر بالسيطرة على أجواء طهران. هذا ملخص عن تهديدات القوة التي تسيطر على أجواء المنطقة.

في طريقه إلى “النصر المطلق”، قاد نتنياهو آلة الحرب الإسرائيلية في مقامرة جديدة، إلى جولة خراب في المنطقة، ضرب غزة، وانتقل إلى لبنان واليمن، وضرب سوريا في لحظة تخلصها من الأسد، وواصل طريقه المفتوح إلى إيران، مع هجوم من نمط مختلف على الضفة الغربية.

وخلال حرب “النصر المطلق”، مسح نتنياهو قطاع غزة عن الخريطة، في محاولته تهجير أهالي القطاع المتواصلة، وضرب المستشفيات، وأيضًا المدارس ضمن استراتيجية عسكرية، كما نشرت صحيفة “الغارديان”، وحول قصف المباني في بيروت إلى أداة ضغط، وسعى إلى صياغة شكل سوريا الجديدة عبر القصف الجوي والتوغل البري وضرب الموانئ اليمنية، وحتى مفاوضات صفقة التبادل صارت أداة ضمن استراتيجية إدارة الحرب.

على مستوى الحرب على إيران، فإن النشوة الإسرائيلية الأولى في الضربة الافتتاحية المؤثرة بدأت تتلاشى جزئيًا مع الهجمات الإيرانية المضادة، وسط خشية من التورط في حرب مدن واستنزاف مفتوحة، سيكون الثبات فيها هو المحدد لنتيجة الحرب، رغم فقدان إيرانللردع فعليًا والضربة الكبيرة بخسارة قيادات عسكرية وعلماء ومنشآت.

وفي وسط هذه الأحداث، فقط ظهر في التحليلات الإسرائيلية تساؤل عن جدوى العيش في إسرائيل، مع دائرة الحروب المستمرة التي يقودها نتنياهو، ومع تشكيك جاد في دوافعه ومدى معقولية اتخاذه خيار الحرب. بينما تجمع التحليلات على أن نتنياهو اتخذ قرار الحرب دون استراتيجية خروج، كعادته في حروب المنطقة المستمرة. ويبقى التعويل على ترامب للقدوم بمثل هذه الاستراتيجية، التي قد تكسب فيها إسرائيل حال أضعفت موقف إيران التفاوضي، أو تحقق فيها أحلام نتنياهو كاملة، حال تورطه في “أم الحروب”. بينما تشير التقديرات في إسرائيل إلى عدم قدرة تل أبيب على تعطيل برنامج طهران النووي، منفردة.

على أي حال، يطرح نتنياهو علنًا منطق الحرب، ويسعى عبره إلى تحقيق شرط الوجود والعدم في المنطقة التي يعمل على صياغتها وفق منطق “الزمن الإسرائيلي”، هيمنة كاملة، تحت الشرط الإسرائيلي، وبما يتوافق معه، وبما يتناقض بطبيعة الحال مع مصالح دول المنطقة، حتى تلك التي تعادي إيران ومشروعها الإشكالي.

والخشية من سلوك نتنياهو تظهر من الواقع، وبينما فشل الجيش الإسرائيلي في هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، فإنه حقق تفوقًا واضحًا في مواجهة حزب الله، ومن ثم إيران، وتحرك سريعًا في سوريا، ولعل في ذلك مفارقة، عن مدى استعداد الجيش الإسرائيلي وأيضًا تفوق سلاحه الجوي واستراتيجيته، على مستوى المنطقة، وعمله الدائم والمستمر عليها، وفشله على مستوى سلاح البر ومتابعة غزة المحاصرة على تخومه.

على مستوى المنطقة وأيضًا إيران، كان الكثير من رطانة نتنياهو يدور حول العدو الخارجي (الآخر)، سواء إيران ومشروعها النووي أو إحباطه قيام دولة فلسطينية. غير أن نتنياهو أو “سيد الأمن” كما يلقبه أنصاره، يبدد الآن للمفارقة حتى نظامه الخطابي الذي أسسه وعاش عليه سياسيًا لمدة 30 عامًا. ومهما كانت محصلة الحرب على إيران، فإن على دول المنطقة أن تشعر بالخطر من خطاب نتنياهو أو من سيخلفه حول ماهية العدو والصديق. ففي ظل تحول القوة إلى مبدأ حكم ووجود، فإن الخطر الإسرائيلي يتجاوز ضرب إيران، ومشروعها النووي والإقليمي (في مشاكله الكثيرة داخل الإقليم). إن ما يطرحه نتنياهو فعليًا هو أكثر من مشروع إخضاع، إذ طوال الحرب على غزة وفي المنطقة، كرر حديثه عن “الشرق الأوسط الجديد” و”إعادة تشكيل الشرق الأوسط”، وكل هذا هو الحقيقة العارية التي يعلنها نتنياهو دومًا عبر حروبه.

تعمم إسرائيل النمط الغزّي للحروب؛ ضرب منشآت حكم، وأوامر إخلاء واسعة، وعمليات اغتيال متكررة. وفي الغرف المغلقة، فإن نتنياهو يتحدث عن “تغيرات تاريخية سيظل الحديث عنها مستمرًا لأجيال”، مع تصريحات عدوانية أكثر من الجيش، إذ يتحدث الجيش عن اكتساب “حرية العمل في الدائرة الثالثة – أي إيران – كما هو الحال في الدائرة الأولى، أي غزة أو لبنان”.

هذا ما يطرحه نتنياهو عن الشرق الأوسط الجديد، الخاضع لشرط الجدار الحديدي الإسرائيلي، هيمنة كاملة واستعداء للمحيط، يظهر في الاعتداء المستمر على سوريا الجديدة، والحرب المتواصلة على لبنان، والقتل اليومي في قطاع غزة، وغارات على بعد 2300 كم.

16
اترك التعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المشاركات الأخيرة: