مقال: أ. سليمان أبو ستة
كما بدأت فجأة الهجمات الإسرائيلية ضد إيران، وتحولت إلى هجمات متبادلة، انتهت بشكل مفاجئ، وفي لحظة تصور كثيرون أنها تأسيس لتصعيد أكبر في المواجهة عبر قصف إيران لقاعدة العديد الأمريكية في قطر، وهو ما يجعل تصور السيناريوهات المستقبلية أقرب إلى اللامتوقع منها إلى ما هو منطقي.
خاصة أن هذه المواجهة ارتبطت بأكثر من خدعة تناقضت مع التصريحات المعلنة، ومن ذلك أن الهجوم الإسرائيلي المباغت على إيران تم قبل جلسة مفاوضات مرتقبة في مسقط بيومين، والهجوم الأمريكي على المنشآت النووية تم مباشرة بعد إعلان الرئيس الأمريكي ترمب منحه مهلة أسبوعين لإيران للعودة للمفاوضات.
ولذا تظل أقرب السيناريوهات إلى الواقع أن يكون ما جرى خدعة كبيرة، ومن البديهي القول إنه لقراءة سلوك أي فاعل سياسي المستقبلي فلابد من قراءة سلوكه في الماضي، وهو ما يرجح استمرار الخداع، خاصة أن الاحتلال لم يحقق أهدافه المتمثلة في القضاء على المشروع النووي الإيراني ولا تدمير القدرات الصاروخية البالستية، ولم يسقط النظام، ولم يؤلمه بشكل كبير بحيث يتخلى عن حلفائه في الإقليم كالحوثيين وحزب الله والمقاومة الفلسطينية، ولم ينجح في تحقيق معادلة استباحة تشبه ما جرى في لبنان.
خاصة أن السؤال الحاضر اليوم، ماذا لو أعلنت إيران غدا أنها ما زالت تحتفظ بكميات من اليورانيوم، وأن مفاعلاتها لم تتضرر بشكل كبير، وأن لديها علماء قادرون على مواصلة جهود من تم اغتيالهم، ماذا ستفعل إسرائيل والولايات المتحدة في هذه الحالة، وماذا لو استطاعت إيران الحصول على مقاتلات حربية متطورة من الصين، أو منظومات دفاع جوي أكثر قوة، خاصة أن الاحتلال خاطر بكشف كثير من أساليب عمله الأمنية والعسكرية، واستفز الكرامة الإيرانية التي ستعمل فورا في ظني على علاج نقاط ضعفها، وترميم جراحها، وتنظيف بيتها الداخلي.
وإذا لم تكن إسرائيل والولايات المتحدة مخادعة في توجهاتها، فإن هذا يحيلنا إلى السيناريو المنطقي التالي – مع التأكيد أننا لا نحلل بالضرورة سلوك أشخاص منطقيين وعقلاء، فلا ترامب ولا سموتريتش ولا بن غفير أسوياء تماما في ظني، أما نتنياهو فلا يتحرك إلا وفق بوصلة مصالحه الخاصة، وهو ما قد يفسر اختياره لتلك اللحظة فجر 13 يونيو لضرب إيران، فلقد نجح في تغييب قضية تجنيد الحريديم تماما عن ساحة النقاش بعد أن كادت تنجح في إسقاط حكومته- وهذا السيناريو هو خيار التسوية على كل الجبهات.
فلقد نجح نتنياهو في رفع شعبيته بشكل كبير عقب استهدافه إيران، وهو ما قد يعده محوا لإخفاقه الكبير في السابع مع أكتوبر، وبالتالي يغتنم هذه اللحظة في الذهاب لانتخابات مبكرة تعيد تجديد شرعيته، وتدفع إلى الأمام قدما مشروعه الداخلي بهيمنة تياره على مؤسسات الكيان الإسرائيلي العميقة، وتشير تقديرات عديدة إلى أنه في هذه الحالة قد يذهب لوقف كل حروبه، والتوصل لصفقة مع غزة تضمن له تحرير أسراه، ومن ثم يروج لنجاحه الكبير كرجل قادر على تحقيق الأمن وتدمير الأعداء.
ومما يعزز ذلك فشل عملية عربات جدعون في إحداث تغيير جوهري في ميزان الصراع، وعجز الاحتلال عن حسم المعركة، وتخوفه من استمرار غزة في استنزاف قوات الاحتياط، وما تشكله عليه من عبء دولي في ظل مشاهد المجاعة غير المسبوقة، وفشل نموذج الشركة الأمريكية في توزيع المساعدات.
وقد يكون من نتائج ذلك، تكثيف التركيز على الضفة المحتلة لضمان رضا حلفائه سموتريتش وبن غفير، وبالتالي يكثف الاستيطان والاستيلاء على الأراضي، وفرض مزيد من الحواجز والبوابات الإلكترونية، وتغيير الوقائع على الأرض كتجريف المخيمات، وتكثيف الاعتداءات لترويع المواطنين، وإطلاق يد المستوطنين بمزيد من الاعتداءات، وصولا لضم مناطق واسعة من الضفة للكيان رسميا.
وتكثيف مساعي إزالة ما تبقى من الكيانية السياسية الفلسطينية في الضفة، وإنهاكها اقتصاديا، وصولا إلى تحويل السلطة لمجرد وكيل أمني محلي قاصر -أكثر مما هو عليه حاليا للأسف- ، ليست له أي صلاحيات سياسية أو وطنية داخلية أو خارجية، وما يجري في قضية رواتب الأسرى التي قطعتها السلطة، وكذلك مصادرة سموتريتش لأموالها إشارات على هذا النهج.
ولا يرى ائتلاف نتنياهو في استمرار الحرب على الضفة مشكلة في حال التوجه للانتخابات مع استمرارها، فلا تكلفة كبيرة للعدوان عليها، وإمكانية المزايدة من خلالها لكسب مزيد من الأصوات الانتخابية تجارة رابحة لا خسارة فيها.
ومن بين السيناريوهات المحتملة أيضا سواء ذهب الاحتلال لانتخابات أو لم يذهب، أوقف الحرب على غزة أو لم يوقفها، الذهاب لتوسيع عدوانه في ساحات أخرى من بينها لبنان وسوريا، حيث يرى الاحتلال أنه لم ينجح في القضاء على قوة حزب الله رغم الضربات المتواصلة، وقد يجد في نجاحه بتحييد إيران ولو إلى حين فرصة لإتمام المهمة، ومما يؤكد استعداد الاحتلال لذلك ضرباته اليومية أو شبه اليومية في لبنان، فحسب فهمنا لسلوك العدو ما كان له أن يذهب إلى هذه الضربات إلا وهو مستعد تماما للحرب ولديه خططه لها، وبالتالي قد يكون هذا أحد مساراته المستقبلية.
أما بخصوص سوريا فالاحتلال يعلن بشكل متكرر عداءه للنظام السوري الجديد، وأنه يرى فيه خطرا جهاديا، وحاول مرارا التدخل في سير الأحداث عبر دعم بعض الأقليات، وهو ما لم يتوقف في ظني، بل بات يحدث بشكل سري، كما توغل الاحتلال في الأراضي السورية وسيطر على مئات الكيلومترات منها، وأعلن على لسان بعض قادته نيته العمل على تقسيم سوريا إلى أربع دويلات، وهو ما قد يستمر خلال الفترة اللاحقة.
وظني أن الضربات المباغتة للنظام الإيراني وحزب الله يجب أن تستفز كل الطاقات لدى النظام السوري الجديد لحماية قادته وكوادره وقدراته، فقد يستيقظ الجميع في أي لحظة على وقع ضربة مباغتة وقاتلة، وهو ما يستدعي يقظة كبيرة، واستنفار أمني عالي، وفهم طبيعة هذا العدو الإجرامي، وإدراك مخاطر أدوات الاتصال التكنولوجية، وحجم اختراق العدو لها، وتوظيفها في جلب كم هائل من المعلومات وتحديد المواقع وفهم الوقائع، والحذر من الاختراق الأمني البشري.
ويظل هذا السيناريو حاضرا في كل لحظة، طالما ظلت المبادرة في يد العدو، وهو ما يستوجب إعادة النظر فيما جرى في السابع من أكتوبر المجيد لاستخلاص الدروس والعبر من نجاحاته المهمة، وتطوير الاستراتيجيات والتكتيكات التي استخدمت في ذلك اليوم وصولا إلى حالة عربية وإسلامية قادرة على استباق العدو الإسرائيلي بخطوة أو خطوات.