هيئة التحرير: لؤي حمدان
تجد إسرائيل نفسها مجدداً في مواجهة معضلة توزيع المساعدات الإنسانية في قطاع غزة. فبعد محاولات متعددة لتغيير آليات التوزيع، شملت استمالة العشائر وتشكيل ميليشيات مسلحة في رفح، بالإضافة إلى إنشاء نقاط توزيع تحت إشراف “مؤسسة غزة للإغاثة”، أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مؤخرًا قراراً بتعليق – مؤقت – لإدخال المساعدات شمال غزة. وقد أوعز نتنياهو للجيش بتقديم خطة جديدة تهدف إلى منع وصول هذه المساعدات إلى حركة حماس.
في بيان مشترك، زعم نتنياهو ووزير جيشه يسرائيل كاتس أن حركة حماس استعادت سيطرتها على المساعدات الإنسانية التي تدخل إلى شمال قطاع غزة. وبناءً على هذا الزعم، أصدر الاثنان تعليمات للجيش الإسرائيلي بتقديم خطة عمل خلال 48 ساعة لضمان عدم سيطرة حماس على المساعدات.
ووفقاً لمصدر إسرائيلي، فقد تم تعليق إدخال المساعدات إلى قطاع غزة بانتظار تقديم الجيش لخطته، حسبما أفادت القناة 12 العبرية. وأشارت القناة إلى أن وزير المالية بتسلئيل سموتريتش كان قد وجه إنذاراً نهائياً لنتنياهو بوقف المساعدات “فوراً”، مهدداً بالانسحاب من الحكومة في حال عدم الاستجابة.
من جانبه، نشر رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت مقطع فيديو على منصة (إكس) يظهر مسلحين يركبون شاحنات المساعدات، زاعماً أنهم مقاتلون من حركة حماس. تأتي هذه المزاعم الإسرائيلية الرسمية في وقت حاولت فيه حكومة نتنياهو إيجاد بدائل متعددة لحكم حركة حماس في القطاع منذ بداية الحرب، لكن جميع هذه المحاولات باءت بالفشل.
حقيقة المزاعم الإسرائيلية حول سيطرة حماس على المساعدات
سارعت الجهات الشعبية والرسمية في قطاع غزة إلى دحض مزاعم نتنياهو وكاتس بشأن سيطرة حماس على المساعدات. واعتبر مكتب الإعلام الحكومي أن هذه المزاعم “المفبركة” تهدف إلى شرعنة استمرار الحصار والتجويع، ومنع دخول الإغاثة الإنسانية لليوم الـ118 على التوالي.
في المقابل، أصدرت الهيئة العليا لشؤون العشائر في غزة بياناً أكدت فيه مشاركتها في تأمين وصول شاحنات المساعدات إلى مخازن برنامج الأغذية العالمي، وذلك خشية تعرضها للنهب من قبل عصابات تعمل “تحت غطاء الجيش الإسرائيلي”.
وأفادت مصادر محلية أن الاحتلال يسمح بين الحين والآخر بدخول كميات قليلة من المساعدات إلى المؤسسات الدولية في قطاع غزة، بهدف تخفيف حدة الانتقادات الدولية والاتهامات الموجهة إليه باستخدام الطعام كوسيلة ضغط ضد الفلسطينيين. وأكدت المصادر أن ما أثار حفيظة الاحتلال هو الالتفاف الشعبي لمواجهة الفوضى التي يحاول الاحتلال تغذيتها في القطاع عبر قضية المساعدات، وفشله في الآليات التي يحاول فرضها. خلال الأشهر الأربعة الماضية، فشل الاحتلال الإسرائيلي في إيجاد آليات للتحكم في ملف المساعدات الإنسانية في قطاع غزة.
ثلاثة شواهد على فشل الاحتلال في إيجاد بدائل للمساعدات
أولاً: انحسار ظاهرة “أبو شباب” في رفح
على الرغم من الدعم الإسرائيلي المباشر وانضمام عناصر جديدة، لا تزال ميليشيا “أبو شباب” محصورة في رفح، وعاجزة عن التمدد وسط رفض شعبي واسع لها في غزة، وفقاً لصحيفة “يديعوت أحرونوت”. وقد واجهت هذه الظاهرة تحديات عدة حالت دون تمددها، منها:
- عدم ثقة الفلسطينيين بالميليشيا المسلحة المتهمة بنهب المساعدات وقتل عدد من المواطنين.
- الخشية من التعاون مع ميليشيات “أبو شباب”، وتوجيه تهم التعاون مع الاحتلال.
- تخلي العائلات عنها وتبرؤها من عناصرها.
يعتبر الفلسطينيون ظاهرة “أبو شباب” محاولة إسرائيلية مصطنعة لخلق واقع جديد لا يقبله القطاع. وتضيف الصحيفة أن رهان المؤسسة الأمنية الإسرائيلية على إنشاء قوة محلية بديلة لحركة حماس في قطاع غزة قد فشل فشلاً ذريعاً حتى الآن. وفي هذا السياق، كشفت مصادر أمنية أن الجيش الإسرائيلي وشخصيات في مخابرات رام الله حاولوا تشكيل حالة مماثلة لميليشيا “أبو شباب” في وسط قطاع غزة، بعد التواصل مع إحدى العائلات الكبيرة هناك، التي رفضت ذلك.
ثانياً: فشل مؤسسة إغاثة غزة
بعيداً عن إشراف الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، بدأت تل أبيب وواشنطن منذ 27 مايو/أيار الماضي تنفيذ خطة لتوزيع مساعدات محدودة عبر ما تُعرف بـ”مؤسسة غزة الإنسانية”. هذه الخطة تجبر الفلسطينيين المجوَّعين على المفاضلة بين الموت جوعاً أو برصاص جيش الاحتلال.
لكن مناطق توزيع المساعدات التي تشرف عليها المؤسسة الأمريكية تحولت إلى نقاط لاصطياد المواطنين وقتلهم، في ظل غياب آلية واضحة ومنظمة تضمن إيصال المساعدات للجميع. وقد أعلن مكتب الإعلام الحكومي في غزة أن حصيلة ضحايا ما يُعرف بـ”آلية المساعدات الإسرائيلية الأمريكية” خلال شهر واحد بلغت 549 شهيداً، و4066 مصاباً، و39 مفقوداً.
وأكدت رئيسة شبكة المنظمات الأهلية في قطاع غزة أن المؤسسة الأمريكية ليست إنسانية، بل تخدم أجندة الاحتلال سياسياً وأمنياً. كما تعرضت المؤسسة الأمريكية لانتقادات أممية، حيث وصف مفوض عام وكالة الأمم المتحدة لتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” فيليب لازاريني الآلية الإسرائيلية الأمريكية بأنها “بغيضة وتُزهق الأرواح”.
وفي 23 يونيو/حزيران 2025، قال رئيس منظمة أطباء بلا حدود كريستوفر لوكيير إن “نظام تقديم المساعدات المفروض في غزة ليس فشلاً فحسب، بل إنه غير إنساني وخطير”. وقد أقرت مؤسسة غزة الإنسانية بأنها غير قادرة على تلبية الطلبات، بعد انتقادات شديدة من جماعات الإغاثة الأخرى، والمجازر المرتكبة من الجيش الإسرائيلي بشكل شبه يومي بالقرب من نقاطها. وفي بيان له قبل أيام، قال المدير التنفيذي المؤقت لمؤسسة الإغاثة العالمية جون أكري إن المؤسسة “لا تستطيع تلبية الاحتياجات الكاملة، بينما تظل أجزاء كبيرة من غزة مغلقة”.
ثالثاً: الجهود الشعبية لمواجهة الفوضى عبر المساعدات
يواصل الاحتلال مساعيه لنشر “الفوضى” في قطاع غزة عبر آلية المساعدات، مما أدى إلى انتشار ظاهرة “قطاع الطرق” في القطاع. ومع ازدياد “لصوص المساعدات”، بدأت العشائر والعائلات الفلسطينية بتشكيل ما يشبه “اللجان الشعبية” للحفاظ على السلم الاجتماعي.
وقد شاركت العشائر الفلسطينية في تأمين وصول شاحنات المساعدات الإنسانية إلى مخازن برنامج الأغذية العالمي في مدينة غزة. سبق ذلك إعلان من التجمع الوطني للقبائل والعشائر والعائلات الفلسطينية بأنها ستبدأ بتأمين قوافل المساعدات بالتعاون مع المؤسسات الأممية، منعاً للفوضى والنهب. وأهاب التجمع بالمواطنين بعدم التوجه إلى مناطق انطلاق الشاحنات أو مواقع توزيع المساعدات العشوائية التي ثبت أنها مصائد موت تستهدف الأبرياء. وأكد أن أي عملية سطو على المساعدات ستُعد جريمة بحق أبناء الشعب الفلسطيني، وتضع مرتكبها في صف الاحتلال، “وسيتحمل كل من يثبت تورطه المسؤولية الكاملة”.
في سياق متصل، تشكلت ما تُسمى بـ”وحدات السهم الثاقب”، التابعة للفصائل الفلسطينية، والتي بدأت بملاحقة المحتكرين والتجار وأصحاب المطاعم والكافيهات التي تتسبب في ارتفاع جنوني لأسعار بعض السلع في قطاع غزة. وقد وجهت الوحدة عبر صفحتها في “تليغرام” رسائل تحذيرية إلى تجار وأصحاب محلات تجارية، كما أعلنت عن وضع خطة للتعامل مع اللصوص وقطاع الطرق والعملاء. جاء ذلك إسناداً لوحدة “سهم” التابعة لوزارة الداخلية الفلسطينية، التي تشكلت في مارس/آذار 2024، وركزت مهامها أيضاً على مواجهة اللصوص وقطاع الطرق وكذلك المحلات التجارية التي تتسبب في غلاء الأسعار. وذكرت مصادر محلية أن وحدة سهم قامت بـ”تحييد” العشرات من اللصوص وقطاع الطرق عبر القتل أو إطلاق النار على الأقدام، وسحب الهواتف منهم، خلال الأيام الماضية.
وفي 26 يونيو/حزيران 2025، أصدر أمن المقاومة إعلاناً عن تشكيل قوة ميدانية خاصة تحت اسم “رادع”، ستتبع الأجهزة الأمنية في قطاع غزة، ومهمتها تولي تنفيذ مهام مباشرة في ملاحقة قطاع الطرق، واللصوص، والتجار المحتكرين، ومرتكبي المخالفات الأخلاقية والجنائية. وأوضحت صفحة “أمن المقاومة” على “تليغرام” أن قوة “رادع” بدأت بالانتشار ميدانياً في معظم مناطق قطاع غزة، وقد نجحت في إغلاق عدد من القضايا العالقة، بما في ذلك استعادة مسروقات وردع المجرمين. كما أكدت أن الفترة المقبلة ستشهد تشديداً للإجراءات الأمنية، وتوسيعاً لنطاق عمل قوة “رادع”، بما يسهم في ترسيخ الأمن المجتمعي، والقضاء على “الظواهر الدخيلة، كالبلطجية، والاستغلال، والسرقة”.