في فجر الخامس عشر من حزيران/يونيو 2025، دوّت صفارات الإنذار في مدينة رحوفوت جنوب تل أبيب، بعدما أصابت صواريخ باليستية إيرانية مبنى المختبرات العلمية في معهد وايزمان، أحد أبرز المراكز البحثية في إسرائيل. ورغم دقة الضربة وما خلّفته من دمار، فإن التغطية الإعلامية داخل إسرائيل كانت محدودة و خضعت لرقابة عسكرية صارمة. وهو ما يثير تساؤلات مشروعة: هل تعمّدت إسرائيل إخفاء حجم خسائرها؟
لم يكن استهداف معهد وايزمان حادثًا عشوائيًا. فالمعهد، الذي أسّسه حاييم وايزمان، أول رئيس لإسرائيل، يُعدّ ركيزة في البنية العلمية والأمنية الإسرائيلية. يُشارك المعهد في مشاريع الذكاء الاصطناعي العسكري، ويُعدّ المزود الأساسي لوحدات النخبة في الاستخبارات مثل وحدتي 8200 و81، ويُعتقد أن له ارتباطًا مباشرًا بالبنية التحتية للبرنامج النووي الإسرائيلي.
القناة 12 الإسرائيلية، أشارت إلى أن استهداف المعهد لم يكن صدفة، بل جاء نتيجة فهم إيراني عميق لطبيعة الدور الاستراتيجي الذي يلعبه المعهد في خلفية المنظومة الأمنية والعسكرية. أما الصحفي الاستقصائي رفيف دروكر، فكشف عبر القناة 13 عن حجم الأضرار الناتجة عن الضربة.
وقال دروكر: “الإيرانيون راقبوا بدقة مواقع سقوط الصواريخ، ليس فقط في معهد وايزمان، بل في مواقع عسكرية واستراتيجية أخرى لم يتم الكشف عنها حتى الآن. الجمهور لا يدرك حتى الآن مدى دقة القصف الإيراني ولا حجم الأضرار”.
من جانبه، صرّح رئيس المعهد، البروفيسور ألون حين، بأن “الضربات استهدفت القسم العلمي، وهو قلب المعهد”، وقدّرت الأضرار المالية ما بين 300 إلى 500 مليون دولار.
أما البروفيسور عيران سيغل، من قسم علم الحاسوب، فأكّد تدمير نحو عشرين مختبرًا جزئيًا أو كليًا، مضيفًا أن “إنجازات علمية وبيانات تراكمت لعشرات السنين قد فُقدت إلى الأبد”.
فرضت الرقابة العسكرية الإسرائيلية حظرًا تامًا على تصوير الأضرار، وبررت الجهات الرسمية ذلك بأنه يهدف إلى “منع تزويد العدو بمعلومات قد تدفعه إلى إعادة استهداف نفس المواقع”. لكن تلك الذريعة أثارت جدلًا داخل الأوساط الصحفية، خصوصًا في ظل الطبيعة الرمزية للموقع المستهدف.
في الواقع، الرقابة العسكرية في إسرائيل لا تُمارَس فقط وقت الحرب. وبحسب معطيات رسمية، يُخضع الرقيب العسكري أكثر من 2200 مادة سنويًا للفحص، ويمنع نشر نحو 240 تقريرًا كليًا، إذا اعتبر أنها تهدد الأمن القومي. وتُمنح الرقابة صلاحيات لحظر نشر أي مادة تتعلق بالجيش، أو المشاريع النووية، أو إمدادات الطاقة والمياه.
من يتجاوز تلك الرقابة يُواجه خطر المحاكمة، أو حتى سحب ترخيصه الصحفي، كما حدث في فضيحة “الخط 300” في ثمانينات القرن الماضي، عندما كُشف لاحقًا أن الرقابة كانت تُستخدم للتغطية على إعدامات نفّذها جهاز المخابرات الإسرائيلية الشاباك بحق أسرى فلسطينيين.
تسعى كل دولة خلال الحروب إلى الحدّ من كشف خسائرها، حفاظًا على المعنويات ومنعًا لاستغلال الثغرات. لكن في الحالة الإسرائيلية، تجاوزت الخسارة البُعد المادي، فالموقع المستهدف يُمثّل “العقل الإسرائيلي” الذي تفاخرت به تل أبيب لعقود، ما يجعل من الضربة الإيرانية تحديًا مباشرًا لـ”صورة التفوق الإسرائيلي”.
المحلل الأمني عوفر شليح عبّر عن خطورة الضربة، بقوله: “من يظن أن معهد وايزمان مجرد مختبر أكاديمي، لا يفهم كيف تُدار إسرائيل. هذا الهجوم يعادل رمزيًا قصف قاعدة لسلاح الجو. لم نخسر أجهزة فقط، بل سنوات من التراكم العلمي لا يمكن تعويضها”.
رغم التعتيم الإعلامي، بدأت أصداء الضربة تتسلل إلى الرأي العام الإسرائيلي. يفغيني زروبينسكي، الذي تضرر منزله بالقرب من وزارة الجيش، قال لقناة “i24”: “ظننت أنني سأكون بأمان حين أعيش قرب الكرياه (مقر وزارة الجيش و هيئة الأركان)، لكن أحد أصدقائي قال لي: لا تشترِ شقة هناك، فربما تُستخدم درعًا بشريًا لحماية المقر”.
أما إيرز فوجا كدوش، الذي سقط صاروخ قرب منزله في المنطقة ذاتها، فقال: “اعتقدت أنني في أكثر الأماكن أمنًا، لكن لا يبدو أن هناك مكانًا آمنًا في إسرائيل اليوم”.
بدورها، عبّرت زاميرا سيغف، القاطنة قرب وزارة الجيش، عن شعورها بالخذلان: “في السابق، كان الجنوب أو الشمال أهدافًا للحرب. اليوم، نحن جميعًا أهداف. من لا يريد التعرّض للصواريخ، فلا يجب أن يعيش في إسرائيل”.
وفي سياق أمني موازٍ، كشف المحقق في وحدة التحقيقات الدولية، ماؤر غورين، أن مواقع عدة تعرّضت لضربات مباشرة، مثل مستشفى سوروكا ومصفاة حيفا، كانت قد ذُكرت سابقًا ضمن ملفات التحقيق مع متهمين بالتجسس لصالح إيران. وأوضح أنه يتم الرجوع إلى تلك الملفات بعد كل ضربة لتقييم طبيعة الأهداف.
وكانت الشرطة قد اعتقلت، في أيار/مايو الماضي، المتهميْن شمعون مزراحي وداني أتياس، وقدّمت ضدهما لوائح اتهام تشمل التخابر مع جهات أجنبية، ومحاولة اغتيال عالم ذرة، وجمع معلومات عن مواقع استراتيجية تعرّضت لاحقًا للقصف. وأضاف الادعاء تهمة “مساعدة العدو في وقت الحرب”، وهي التهمة الأخطر في قانون العقوبات الإسرائيلي وتصل عقوبتها إلى الإعدام.
صحيفة “هآرتس” علّقت على الضربة، بقولها: “إيران لم تستهدف السلاح، بل العقل الذي يصنع السلاح”، في إشارة إلى البُعد الرمزي للهجوم الذي طال أحد مراكز التفكير والإبداع الإسرائيلي.
تُبقي هذه الأحداث أسئلة حيوية معلقة: هل كانت الرقابة العسكرية الإسرائيلية وسيلة فعّالة لحماية الأمن القومي الإسرائيلي؟ أم أنها حجبت “حق” الجمهور الاسرائيلي في معرفة الحقيقة؟ وهل يمكن لإيران أن تكرر هذا النوع من الضربات ضد مواقع أكثر حساسية، كمنشأة نووية أو مقر قيادة عسكرية؟ الأكيد أن طهران لم تطلق فقط صواريخ، بل بعثت برسالة استراتيجية تعيد رسم معادلة الردع، وتضرب في عمق ما اعتقدته إسرائيل أنه “منطقة آمنة”.