هيئة التحرير: لؤي حمدان
في الرابع من سبتمبر/أيلول عام 2002، حينما كانت القدس تتنفس ألماً، امتدت يد الاحتلال الإسرائيلي لتختطف الأسير فهمي مشاهرة، وتحُكم عليه بالسجن المؤبد 20 مرة، بتهمة إيصال استشهادي نفذ عملية أسفرت عن مقتل 19 إسرائيلياً. وبعد 23 قضاها خلف القضبان، تحرر مشاهرة في 25 يناير/كانون الثاني ضمن صفقة التبادل التي أُبرمت بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) والاحتلال الإسرائيلي.
الأسير المحرر “مشاهرة”، الذي أُبعد خارج فلسطين، يمثل قصة صمود وإرادة لا تلين، حيث تمكن خلال سنوات سجنه من إنهاء الثانوية العامة والالتحاق بالدراسة الجامعية، ومارس هوايات الشعر والرسم والرياضة، وألف كتاباً بعنوان “الحياة الثالثة ما بين الدنيا والآخرة”.
والأكثر إلهاماً، أنه رزق بأربعة أطفال عبر النطف المحررة من داخل السجون، توأم “آية وأحمد” عام 2023، وابنته عزيزة عام 2013، وابنه عيد عام 2018.
في هذا الحوار الخاص، الذي أجراه معه (موقع المقدسي للإعلام) من منفاه في تركيا، نغوص في أعماق تجربته، ونستمع إلى رسائله التي تحمل في طياتها الكثير من العبر والإلهام.
نص الحوار مع الأسير المحرر فهمي مشاهرة:
كيف تصف لنا شعورك وأنت تتنفس هواء الحرية بعد 23 عاماً من السجن؟
الشعور لا يمكن وصفه بكلمات… أن تعود إلى الحياة بعد 23 عاماً خلف القضبان، كأنك تولد من جديد. أول نسمة هواء خارج القضبان كانت أشبه بقطرة ماء تسقي عطش الروح. رأيت الشمس دون قضبان، ولامست الأرض دون أن يقيدني السجان. لكن في قلبي، هناك حنين لا ينتهي لإخواني الذين ما زالوا هناك، ولا تكتمل فرحتي إلا بحريتهم جميعاً.
كنتم قد وجهتم تحية خاصة لأهل غزة ومقاومتها، ما هي الرسالة التي تود أن توصلها لهم تحديداً بعد خروجك؟
رسالتي لأهلنا في غزة الأبية، أنكم كنتم وما زلتم نبراس الكرامة وشعلة الصمود في وجه أعتى آلة بطش عرفها التاريخ. لقد كنتم لنا عزاء وعزة في كل لحظة قهر عشناها خلف القضبان. كانت أخبار بطولاتكم تصلنا كنبض حي يعيد إلى أرواحنا الحياة. أنتم من رفع رؤوسنا، وأنتم من ذكر العالم أن فلسطين ليست قضية منسية، بل روح تنبض في كل مقاوم. جزاكم الله عن كل الأسرى خير الجزاء.
أمضيت 23 عاماً في سجون الاحتلال، وحكمت بالمؤبد 20 مرة.. كيف تمكنت من الصمود والحفاظ على روحك المعنوية طوال هذه الفترة الطويلة؟
الصمود لم يكن خياراً، بل ضرورة. حين تسلب حريتك، لا يبقى لك إلا أن تتمسك بكرامتك وعقيدتك وأملك بالله. عشت كل لحظة على يقين أن الحق لا يضيع، وأن الليل لا بد أن ينجلي. كنت أستمد قوتي من دعاء أمي، من صبر زوجتي، من ابتسامة أطفالي الذين ولدوا من رحم المستحيل. السجن قتل جسدي ولكنه لم ينل من روحي، بل زادها عناداً وثباتاً.
تعرضت لتحقيق قاس في معتقل المسكوبية لأكثر من 100 يوم.. هل يمكنك أن تصف لنا طبيعة هذا التحقيق وأبرز التحديات التي واجهتها خلاله؟
التحقيق في المسكوبية لم يكن مجرد استجواب، بل كان معركة على كسر الإرادة. أكثر من مئة يوم من العزل، التعذيب النفسي والجسدي، الحرمان من النوم، التهديد بأحبتي… أرادوا أن يسلبوا إنسانيتي، لكنني كنت أردد في داخلي: “إن بعد العسر يسراً”. كل صرخة خرجت مني كانت شهادة على إجرامهم، وكل صمت صبرت عليه كان انتصاراً صغيراً يراكم عزيمتي.
كيف أثرت تجربة السجن على رؤيتك للحياة، للمقاومة، وللقضية الفلسطينية بشكل عام؟
السجن غربل نظرتي للحياة. جعلني أقدر تفاصيل بسيطة، مثل ضوء الشمس، صوت العصافير، لمسة طفل. أما المقاومة، فقد ترسخت في وجداني كأقدس أشكال الكرامة. أما القضية الفلسطينية، فصارت ليست مجرد قضية شعب، بل قضية إنسانية كبرى، عنوانها الظلم والمقاومة، والحق الذي لا يموت.
خلال سنوات الأسر، تمكنت من إنهاء الثانوية العامة والالتحاق بالدراسة الجامعية. ما الذي دفعك لتحقيق هذه الإنجازات الأكاديمية رغم قسوة السجن؟
كنت أؤمن أن السجن لا يجب أن يكون نهاية، بل بداية أخرى للحياة. أردت أن أقاوم بالعلم كما قاومت بالسلاح. الدراسة منحتني متنفساً، وأعادت لي شيئاً من السيطرة على ذاتي. كل كتاب قرأته كان نافذة على العالم، وكل شهادة نلتها كانت صفعة على وجه السجان الذي أرادني محطماً.
مارست هوايات الشعر والرسم والرياضة داخل السجن، وألفت كتاباً بعنوان “الحياة الثالثة ما بين الدنيا والآخرة”. هل يمكن أن تحدثنا عن هذه الجوانب من حياتك في الأسر وكيف ساعدتك على تجاوز التحديات؟
حين يغلق عليك باب الزنزانة، تفتح أبواب الروح. وجدت في الشعر لغة للبكاء الصامت، وفي الرسم مساحة للحرية، وفي الرياضة طاقة للبقاء. أما كتابي “الحياة الثالثة”، فهو شهادة حية على رحلة روحية عشتها بين عالمين… كان وسيلتي لأصرخ من خلف الجدران: نحن أحياء رغم أنف السجان.
رزقت بطفلين توأم “آية وأحمد” عام 2023، وقبلهما عزيزة عام 2013 وعيد عام 2018، جميعهم عبر النطف المحررة. كيف تصف لنا هذه التجربة؟ وماذا يعني لك أن تكون أباً حين كنت خلف القضبان؟
أن تكون أباً وأنت خلف القضبان، هو من أشد أنواع الشوق ألماً، ومن أصدق أشكال الحب. أطفالي ولدوا من نور الإرادة، من قلب المعاناة. كل واحد منهم كان رسالة تحد للعالم: لن تستطيعوا أن تقهروا الحب. كنت أحلم بهم في الليل، وأرسم ملامحهم في خيالي، واليوم أراهم حقيقة… وأقول: ما ضاع العمر إن كان فيه من يشبهني ويحمل اسمي وإرثي. (وقد منّ الله عليه بـ6 أطفال، اثنين قبل سجنه وهما عبيدة وزينة، وأربعة بعد اعتقاله).
ما هي التحديات التي واجهتها عائلتك في تربية الأبناء في غيابك؟ وكيف ترى دور النطف المحررة في تعزيز صمود الأسرى وعائلاتهم؟
زوجتي كانت بطلة هذه الحكاية. حملت عبء الأبوة والأمومة، والغياب والقهر، ومع ذلك لم تنكسر. كل يوم كانت تقاتل لتبني جيلاً يعرف أن والده لم يغب عبثاً. النطف المحررة هي إعلان ثورة… ثورة حب، وثورة بقاء. هي صيحة في وجه الظلم تقول: أنتم تأسرون الجسد، لكن الروح ما زالت تنجب الحياة.
الآن وقد أصبحت حراً، كيف تخطط لتعويض السنوات التي قضيتها في الأسر؟
لا يمكن استرجاع الزمن، لكن يمكن أن أملأ ما تبقى منه بالمعنى. سأبدأ من بيتي، أطفالي، زوجتي، وطني في قلبي. أريد أن أروي قصتي، أن أكون صوت من لم تفتح لهم الأبواب بعد. أريد أن أخدم شعبي بكل ما تعلمته، وأن أزرع أملاً لا يسجنه أحد.
اتهمك الاحتلال بالانتماء لكتائب القسام والمشاركة في عملية استشهادية. ما هو تعليقك على هذه الاتهامات؟
الاحتلال اعتاد أن يصنف كل مقاوم حسب معاييره هو. لم أكن يوماً خجلاً من انتمائي لفلسطين، ومن مقاومتي لاحتلال ظالم. إذا كانت تهمة الانتماء للمقاومة هي جريمتي، فأنا أعتز بها وأحملها وساماً على صدري.
كيف ترى المشهد الفلسطيني الراهن بعد “طوفان الأقصى”؟
طوفان الأقصى أعاد ترتيب الوعي الفلسطيني. أسقط أوهام التنسيق، وكشف هشاشة الاحتلال. أعاد الروح إلى الشارع، والكرامة إلى الموقف. نعم، ندفع ثمناً باهظاً، لكن هذا الثمن هو طريقنا نحو الحرية الحقيقية، ونحن أمة اعتادت أن تصنع المعجزات من بين الركام.
ما هي رسالتك للمقاومة الفلسطينية وللشعب الفلسطيني الصامد في غزة والضفة والقدس والداخل؟
أنتم الأمل المتجدد… أنتم خط الدفاع الأول والأخير. صمودكم هو النور الذي كنا نراه من خلف القضبان، ومقاومتكم هي الحلم الذي حملناه معنا في الزنازين. لا تتركوا البندقية، ولا تساوموا على الكرامة، فأنتم عنوانها.
بصفتك أسيراً محرراً أبعد خارج فلسطين، كيف ترى دور الشتات الفلسطيني في دعم القضية؟
الشتات ليس غربة فقط، بل مسؤولية. الفلسطيني حيثما وجد يجب أن يكون سفيراً لقضيته، حاملاً لوجع شعبه. الشتات قادر على تحريك الرأي العام، دعم الأسرى، ونقل الحقيقة بلغة العالم. نحن جسد واحد، مهما تباعدت الجغرافيا.
ما هي أبرز التحديات التي تتوقع أن تواجهها كفلسطيني محرر أبعد عن وطنه؟
أصعب تحد هو الحنين… أن تعيش جسداً خارج الوطن وقلبك معلق بالقدس والخليل ونابلس. وأيضاً أن تبقى فاعلاً في قضيتك رغم القيود الجديدة التي ليست جدراناً، لكنها سياسات ومواقف. سأقاوم المنفى كما قاومت السجن.
ما هي رسالتك للعالم أجمع حول قضية الأسرى الفلسطينيين ومعاناتهم في سجون الاحتلال؟
أقول للعالم: الأسرى ليسوا أرقاماً، بل بشر يحملون قصصاً، أحلاماً، أمهات ينتظرن، أطفالاً ينامون على صورة. في سجون الاحتلال تنتهك كل المعايير الأخلاقية والإنسانية. صمتكم شراكة في الجريمة، وكلمتكم يمكن أن تكون مفتاحاً للحرية.
هل هناك أي رسالة أخيرة تود توجيهها من خلال هذه المقابلة؟
رسالتي لكل من يسمع: لا تنسوا الأسرى… لا تنسوا فلسطين. قد يسرق الاحتلال أعمارنا، لكنه لا يستطيع أن يسرق إرادتنا. والحرية قادمة… قادمة لا محالة. ( تمنى الأسير مشاهرة أن يرضى الله عنه، وأن تنتهي الحرب عن أهل غزة، وأن يتحرر باقي الأسرى، وأن تكون نهاية إسرائيل على أيدي المقاومة في فلسطين فقط، وأن ينتقم الله تعالى لنا من كل من خذلنا وتآمر علينا).
تظل قصة الأسير المحرر فهمي مشاهرة شهادة حية على صمود الشعب الفلسطيني وإرادته التي لا تنكسر، وتأكيداً على أن الأمل بالحرية يظل متقداً حتى في أحلك الظروف.