المقاتل الفلسطيني وسر صموده أمام حرب الإبادة الصهيونية

مقال: أ. سليمان أبو ستة

منذ أكثر من 21 شهرا وآلة الإبادة الصهيونية تواصل فتكها بكل شيء في غزة، وكان المتوقع لهذه الحرب أن تنتهي في غضون شهور قليلة لا تزيد عن ستة في أكبر الاحتمالات، فمن ذا الذي يستطيع الصمود في مواجهة آلة قتل بهذه القوة التي ضخها الغرب في جسد الاحتلال الذي اهتز صبيحة السابع من أكتوبر.

لكن الاحتلال الذي نجح في تنفيذ واحدة من أكبر المجازر والإبادات العنصرية في تاريخ البشر الحديث مقارنة بالمساحة والسكان المستهدفين، فشل في كسر إرادة المقاوم الفلسطيني، الذي ظل يبهر العالم بمشاهد غير مسبوقة في جرأتها.

ولم يكن أول ولا آخر تلك المشاهد بطل خانيونس الذي طارد الدبابة ملقيا من فتحتها العليا عبوة ناسفة فتكت بسبعة جنود كما اعترف الاحتلال، ذلك أن كثيرا من المشاهد لم تصورها المقاومة ولم تخرجها إلى العلن.. يكشف عن ذلك ما نشره الاحتلال نفسه خلال الأيام القليلة الأخيرة من مشاهد لمقاومين في منتهى الجرأة.

ولتوضيح جرأة هؤلاء الأبطال فإننا نتحدث عن شباب يهاجمون دبابة ليست كدبابات الجيوش الأخرى، فهي غول حديدي ضخم جدا، يصل وزنه لخمسين طنا، ومزود بأحدث تقنيات المراقبة والاستشعار، وتحرسه من الأعلى أفضل طائرات الاستطلاع المتنوعة قدرة وحجما وتأثيرا، والتي تجعل أي حركة على الأرض سببا لموت فوري ينهمر من السماء، لا يميز بين صغير وكبير، ويقتل على أدنى سبب للشك، ولديه الاستعداد لقتل مئة طفل أو يزيد من أجل استهداف شخص واحد.

في ظل ذلك الموت المتربص بالأحياء في كل مكان، وفي ظل جوع تظهر آثاره على الأجساد المنهكة لمقاتلين من الواضح أنهم كانوا يوما أصحاب أجسام رياضية مدربة، وفي حالة من العوز المادي الكبير الظاهر في أحذية وملابس أولئك الأشداء الذين ربما لم يخرج كثير منهم من أماكن رباطه منذ شهور طويلة، منعزلا عن البشر أجمعين دون وسيلة اتصال ولا أداة تسلية.

في تلك الأجواء يظهر أولئك الرجال كأساطير قادمة من التاريخ المجيد، تواجه الموت بلا أدنى وجل، وبمشاعر فياضة تظهر في أصوات تكبيرهم، وفرحهم بتحقيق الإنجاز المطلوب منهم، فلماذا كان هؤلاء هكذا، ولم يلقوا بسلاحهم، ويفروا من الميدان، ويطلبوا الاستسلام، ولماذا لم تتهدم جبهة صمودهم رغم شهور الجوع والخوف على أطفالهم وزوجاتهم، اللواتي ربما يعانين من ألم الحرب ما لا تعانيه نساء أخريات كثر كان معهن أزواجهن سندا ونصيرا.

لا شك أن التربية الإيمانية العميقة التي خاض رحابها أولئك الشباب نجحت في صقل شخصياتها بطريقة مختلفة، فتجربة غزة في تربية أجيال متلاحقة من النشء منذ الطفولة الأولى في المساجد على موائد القرآن والإيمان، نجحت في بناء شخصيات شابة متمسكة بعقيدتها إلى حد غير مسبوق، وهو الإيمان الحقيقي الذي لم يتحطم أمام مغريات غير مسبوقة، كأن يعرض نتنياهو على جائع خمسة ملايين دولار مقابل تسليم أسير لديه، ثم لا يجد تجاوبا، في صورة وفاء لا تتكرر كثيرا.

هذه التربية الإيمانية التي جعلت الجنة هدفا يُرى قريبا وكأن الوصول إليها خروج من باب إلى باب، فصار الموت شيئا بلا هيبة، لا يخيف بطلا من مطاردة دبابة تحت نيران مُسيرة تحمل الموت لكل متحرك، ثم جاء القتل الصهيوني الذي لم يفرق بين صغير وكبير، فعزز هذه الروح التي ترى في الموت شيئا متكررا على مدار الساعة، سواءً كان الإنسان في ميدان مواجهة، أو في خيمته لا يضر ولا ينفع.

هذه التربية لم تكن دينية فحسب بل امتزجت بحالة وطنية تاريخية ترى في العدو سببا في كل مآسي الشعب الفلسطيني والتي يعيشها هؤلاء المقاتلون كل لحظة، فهم امتداد لتجربة غنية في مقاومة الاحتلال، عاشها الشعب الفلسطيني بمختلف أطيافه الليبرالية واليسارية، استفادوا من أخطائها ونجاحاتها، وتشربوا دروسها المؤلمة سواء في الجوانب السياسية أو العسكرية أو الأمنية، فلم يعد خيار الاستسلام مثلا واردا في أذهانهم، بل ظني أن غالبيتهم يفضل الاستشهاد على الاعتقال.

كما لعب التدريب الطويل على مدار سنوات حكمت فيها حماس قطاع غزة دورا مهما في صقل هؤلاء المقاتلين، ويُلاحظ هذا في فهم سلوكهم الميداني، وإلا لاستشهد هؤلاء المقاتلون بالآلاف في أول لحظات المواجهة، ولكن كان من الواضح أن هنالك استراتيجية دقيقة في مواجهة الاحتلال تعتمد على تقليل الخسائر، والاشتباك مع العدو فقط في أماكن وظروف معينة، فنحن هنا لا نتحدث عن مقاتل عاطفي مندفع دون حسابات، بل عن مقاتل شجاع وجريء ولكنه متحكم في أعصابه وسلوكه.

كما أن من أسباب جودة أداء المقاوم الفلسطيني في غزة وجود منظومة سيطرة قادرة على التحكم ومراقبة الميدان ودراسته بعمق، والاستفادة من دروسه، وتعميمها في كل مناطق المواجهة، كما أنها قادرة على التحكم في المقاتلين، لدرجة أن مناطق خلت تماما من المقاومين في لحظة، ثم شهدت مواجهات شرسة في ذات المناطق، وهذا يعني أن هناك من أعطى أمرا بالانسحاب في اللحظة الأولى، ثم العودة للميدان في اللحظة الأخرى.

وتتمتع تلك المنظومة القائدة بمهارات استخباراتية عالية، لديها القدرة على جمع المعلومات المطلوبة عن السلوك الميداني لجنود العدو، والاستفادة منها في توجيه الميدان، حيث يعرف المقاوم متى يخرج لتنفيذ عمليته، وكيف يخرج، وكم يجب أن يستغرق من الوقت، وكيف يضع عبوته الناسفة، وأين يضرب الدبابة، وهكذا.

وهذا ينبه إلى القدرة العالية لدى المقاوم الفلسطيني على الابتكار، فالاحتلال لديه قدرة كبيرة على الاستفادة من الأخطاء التي يقع فيها وتجاوزها، وهذا يقتضي قدرة دائمة على الابتكار والابداع، وإلا كيف يمكن للاحتلال أن يفشل في العثور على عبوة في منزل مفخخ رغم أنه أرسل طائرة استطلاع للفحص، وكلابا مدربة، واستخدام عبوات تصنع موجة تفجيرية صغيرة قادرة على تفجير العبوات، ومع ذلك ينفجر ذلك المنزل أو النفق بمجرد دخول جنود العدو إليه، وهذا مجرد نموذج في القدرة على الإبداع والابتكار المستمر.

كما أن من أسباب قوة وجرأة وبسالة المقاوم الفلسطيني أنه يعيش ضمن منظومة مقاومة لديها استعداد كبير للتضحية، وعلى رأسها قادتها، فمن ذا الذي رأى الشيخ نزار ريان في استعداده للتضحية ولا يكون مثله، ومن ذا الذي رأى مئات من قادة القسام والسرايا الذين استشهدوا مع أسرهم في هذه المواجهة، بدءاً من هنية والسنوار والضيف مرورا بعشرات من قادرة الأولوية والكتائب والتخصصات، وصولا إلى قادة السرايا والفصائل، من ذا الذي رأى هذا رأي العين وعاشه من خلال معرفة شخصية، ثم لا يقتدي بهم.

كما أن من أسباب قوة المقاوم الفلسطيني أنه يحيا أساسا في مجتمع مقاوم، فكثير من الفلسطينيين – وليس الكل قطعا – يؤيد المقاومة، ويراها خيارا مقدسا في استرداد الحق الفلسطيني، وهو ما جعل هذا المقاوم جزءاً أساسيا من هذا المجتمع ينخرط في صفوفه، ويعيش أحلامه وآلامه ويرى فيه مستقبله ومستقبل أطفاله، ويعمل هذا المجتمع على حماية ظهره، ويرحب بسلوكه المقاوم، ويرى فيها أعلى درجات الشرف والبطولة.

 

16
اترك التعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المشاركات الأخيرة: