بعد 21 شهرًا من العدوان الإسرائيلي، لم تعد آثار الحرب في غزة تقتصر على تدمير البنى التحتية وتغيير معالم المدن، بل تجاوزتها إلى إعادة تشكيل المجتمع بكل تفاصيله. فالعدوان الذي أزهق آلاف الأرواح ودمّر المنازل، خلّف أيضًا تحولات عميقة في النسيج الاجتماعي والاقتصادي.
اضطر كثير من الغزيين إلى تغيير مسارات حياتهم، فظهرت مهن جديدة وتبدلت أدوار اجتماعية لم تكن موجودة من قبل، كل ذلك في ظل ظروف قاسية تفرضها الحرب، حيث لم يعد البقاء مجرد تحدٍ، بل صراع يومي من أجل كسب الرزق تحت وطأة القصف والدمار.
من قاعة المحاضرات إلى فرن الطين
يجلس أمجد كلوب (28 عامًا) أمام فرن طيني بدائي، تتناثر حوله رائحة الخبز الطازج وهموم أيام لم يكن يتخيلها حين كان يحاضر في إحدى الجامعات قبل سنتين تقريبًا. يمسح جبينه المتعرق، ويقول: “كنت أعتقد أن تأخري الدراسي بسبب ظروفي الخاصة كان التحدي الأكبر”.
بعد 21 شهرًا من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، لم تعد آثار الحرب تقتصر على الدمار العمراني، بل امتدت لتُعيد تشكيل بنية المجتمع ومصائر أفراده. يسلّط النص الضوء على تحولات قاسية في حياة ثلاثة شبان من غزة، أجبرتهم الحرب على تبديل مساراتهم المهنية بالكامل.
لكن القدر كان يخبئ فصلًا آخر. بعد شهر واحد فقط من بدء مسيرته الأكاديمية، وبعد أن حصل على أول دفعته وعُيِّن معيدًا جامعيًا، دكّت الحرب أبواب القطاع. وقال: “نزحنا من غزة إلى النصيرات ثم دير البلح، وفجأة وجدت نفسي العائل الوحيد لأسرة مكونة من سبعة أفراد”.
بين بسطة الخضار التي لم يتحمل ضغوطها، وبيع الماء البارد الذي أنهك قواه، وجد أمجد نفسه أخيرًا أمام فرن طيني. وأضاف: “كنت أجيرًا بأجر زهيد، أضع الحطب وأصفّ فُروش العجين المصنوع من الدقيق الذي لم يكن متوفرًا دومًا”. لكن الأيام الصعبة لم تكسر إرادته، فتحوّل من أجير إلى صاحب فرن خاص: “كنت أخبز للناس مقابل رغيفين من كل فُرش، ثم تيسّر الحال وصرت أحصل على مبلغ من المال مقابل عملية الخبز”.
اليوم، وبعد أن فقد منزله في غزة، يجد أمجد عزاءه في الفرن الذي أصبح مصدر رزقه، ويقول: “تعلّمت هنا معنى الصبر الحقيقي. نافست في جودة الخبز وعدد الأرغفة مقابل الشيكل الواحد، وأصبحت معروفًا في المخيم”. وبين الدخان المتصاعد والرغيف المُقمر، يختتم: “الحرب أخذت مني الكثير، لكنها منحتني مجتمعًا جديدًا. سأبقى هنا حتى يأذن الله”.
في زاوية المخيم، يواصل الأكاديمي السابق رحلته غير المتوقعة، حيث تحوّلت مهاراته التحليلية من حل المعادلات الرياضية إلى حساب درجات حرارة الفرن المثلى، ومن إدارته للقاعة إلى تنظيم طوابير الخبز الطويلة. الحرب لم تمحُ أحلامه، بل أعادت تشكيلها بطريقتها القاسية.
مقود السيارة وفأس الحطاب
هنا، حيث تتغير موازين الحياة بحدّة مع كل تصعيد، تبرز قصص الصمود والتكيّف كشهادات حية على مرونة الإنسان في مواجهة الظروف القاسية. أحمد الحواجري (25 عامًا) لم يكن يتخيل أن مساره المهني سيتحوّل من خلف مقود سيارة الأجرة إلى حمل الفأس لجمع الحطب، لكنها قصة فرضتها عليه تداعيات الحرب.
قبل الحرب، كانت حياة أحمد تسير بوتيرة مستقرة، ولم يكن شغوفًا بالدراسة، بل اختار طريق العمل مبكرًا، حيث بدأ مشواره بشراء سيارة نقل صغيرة بمساعدة والده، مخصصًا إياها لنقل طلاب المدارس. لاحقًا، انضم إلى إحدى المؤسسات الخاصة كسائق بدوام كامل، مما وفّر له دخلًا ثابتًا يكفيه للوفاء بالتزاماته الأسرية. ويقول أحمد، معبّرًا عن امتنانه لوضعه: “أحمد الله أنني أصغر إخوتي ولست المعيل الوحيد، فذلك خفّف عني بعض الأعباء”.
ومع اندلاع الحرب، لم تتأثر حياة أحمد بشكل فوري. استمر في عمله، ولم يضطر للنزوح، حتى مع الارتفاع الأولي في أسعار الوقود، الذي دفعه لاحقًا إلى تشغيل سيارته بزيت الطعام. ويروي أحمد عن تلك الفترة، بالقول: “صمدت الأمور على هذا النحو لفترة جيدة، إلى أن جاء القصف المفاجئ الذي استهدف منزلًا لعائلة أبو العطا في دير البلح أثناء زيارتي لصديق هناك، ففقدت سيارتي ومصدر رزقي الوحيد”.
كانت الصدمة عميقة، تمثلت في شعور بالعجز والضياع خيّم عليه لفترة. لكن أحمد، كغيره من أبناء غزة، أدرك أن الاستسلام ليس خيارًا، ويقول: “قررت بعد وقت أن أعود للحياة، وأبحث عن عمل جديد مهما كان متواضعًا”. هذا القرار دفعه إلى الانضمام لمجموعة من أصدقائه في مهنة لم تكن تخطر بباله: جمع وبيع الحطب.
هذه المهنة أصبحت ضرورة ملحة في غزة، خاصة بعد القيود الطويلة التي فرضتها إسرائيل على إدخال غاز الطهي، مما جعل الحطب المصدر الرئيسي للطاقة للطهي والتدفئة. يصف أحمد طبيعة عملهم الشاق: “لم نترك أرضًا زراعية مجرّفة أو مكانًا عامًا فيه شجر، إلا وطرقناه بالفأس والمنشار”.
كانت أسعار الحطب تتفاوت حسب نوع الشجر؛ فكيلو حطب الزيتون كان يُباع بـ 2 شيقل، والليمون بـ 4، وأنواع أخرى بـ 1.5 شيقل. ورغم رتابة هذا العمل، إلا أنه لم يخلُ من المخاطر، خاصة في المناطق القريبة من الحدود أو تلك التي تشهد تواجدًا عسكريًا مكثفًا.
منذ أكثر من عام ونصف، يواصل أحمد بيع الحطب في سوق تتأرجح أسعاره بين الشحّ والوفرة، ليعكس بذلك ديناميكية العرض والطلب في ظل الحصار والظروف الاقتصادية الصعبة. اليوم، وصل سعر الكيلو إلى 9 شواقل، وهو ما يعكس الارتفاع الكبير في الطلب. يختتم أحمد حديثه بابتسامة ممزوجة بالواقعية، تلخص حال الكثيرين في غزة: “ربما أعود لمهنتي السابقة يومًا ما، لكننا الآن أبناء هذا اليوم… ولا وقت للأحلام”.
مؤذن الأمس بائع البراد اليوم
في قطاع غزة، حيث تتغير المصائر تحت وقع القصف والحصار، يجد كثيرون أنفسهم مضطرين للتخلي عن أحلامهم، واعتناق واقع جديد يفرضه البقاء. يوسف عبد المعين (29 عامًا) كان واحدًا من أولئك الذين أُجبروا على تبديل حياتهم بالكامل في مواجهة حرب لا ترحم.
قبل اندلاع العدوان، كان يوسف مؤذنًا في أحد مساجد القطاع، يؤدي نداءاته اليومية ويعيش حياة متواضعة، بدخل محدود لكنه مستقر، رغم أنه لم يكن رسميًا ضمن كوادر وزارة الأوقاف. ورغم بساطة الدخل، كان يكدّ ويدّخر شيئًا فشيئًا، على أمل بناء نصف طابق فوق منزل العائلة تمهيدًا للزواج. ويضيف: “حلمي لم يكن كبيرًا، مجرد بيت صغير وحياة هادئة”.
لكن القصف لم يدمر فقط المسجد الذي كان يؤذن فيه، بل دمّر معه خططه وأحلامه، ويقول: “في لحظة واحدة اختفى كل شيء… مصدر رزقي، وحلمي بالزواج، وتلك الصورة التي كنت أرسمها لحياتي”، يتذكر يوسف بمرارة، وهو يستعيد تفاصيل تلك اللحظة الفاصلة التي قلبت حياته رأسًا على عقب.
بعد فترة من الصدمة التي كادت تودي به، نهض يوسف من تحت الركام مجددًا، وبدأ رحلة جديدة، بعيدة كل البعد عن محراب المسجد. حمل على كتفيه “براد” المشروبات الباردة، وبدأ يتنقل بين خيام النازحين، باحثًا عن لقمة العيش في ظروف إنسانية قاسية، “لم يكن أمامي بديل. كان عليّ أن أعيش، أن أبحث عن أي فرصة متاحة”، يقول يوسف.
منذ ذلك الحين، يبدأ يوسف يومه صباحًا ولا يعود إلى منزله إلا مع غروب الشمس، محاولًا بيع ما يمكن بيعه من مشروبات خفيفة في أجواء شديدة القسوة. غياب الكهرباء ونُدرة الوقود جعلا من تبريد المشروبات تحديًا يوميًا، بينما أصبح العثور على الثلج أو بدائل بسيطة لتبريد البراد مهارة يطوّرها مع الوقت، في سعيه لتوفير بضاعته.
أما السكر، المكوّن الأساسي في المشروبات، فقد بات سلعة نادرة ومرتفعة الثمن، تؤثر مباشرة على ربحه الضئيل أصلًا، مما يضيف عبئًا اقتصاديًا آخر على كاهله.
ولم تتوقف التحديات عند هذا الحد. فمع اقترابه من بعض المخيمات أو المناطق المستهدفة، عاش يوسف لحظات كان فيها على وشك الموت، يروي ذلك بالقول: “في إحدى المرات سمعت صوت الطائرة الزنانة فوق رأسي، وبعد دقائق قُصف المكان الذي كنت فيه”، ورغم أنه نجا بأعجوبة، لكنه ظل يردد: “ما باليد حيلة… الرزق لا ينتظر”، في إشارة إلى إيمانه بأن سعيه للرزق لا يمكن أن يتوقف رغم المخاطر المحيطة.
يدرك يوسف أن عمله الحالي موسمي، ولا يمكن الاعتماد عليه على المدى البعيد، خاصة مع قدوم الشتاء، ويقول: “الشتاء قادم بعد مدة، ولا أحد سيشتري مشروبات باردة حينها. لا أعلم ماذا سأفعل، لكني أؤجّل التفكير في الغد… فكل يوم في هذه الحرب هو تحدٍّ بحد ذاته”، معبرًا عن حالة عدم اليقين التي يعيشها الكثيرون في غزة.
هذه القصص جزء من آلاف القصص التي تُكتب بصمت في شوارع غزة؛ قصص عن أحلام انهارت تحت القصف، لكن أصحابها قرروا ألا ينهاروا معها. وفي بلد يحاصر أهله الموت والفقر، يصبح التمسك بالحياة نوعًا من البطولة اليومية.