مقال: سليمان أبو ستة
تضرب المجاعة بقسوتها غير المسبوقة غزة وأهلها أطفالا وشيبا ونسوة ورجالا، في اختبار أخلاقي موجع لأمة كبيرة ممتدة، تمثل غزة قلبها النابض جغرافيا ووجدانيا.
لكن الأمة رسبت حتى اللحظة في الامتحان رسوبا مدويا، لتكشف أمعاء الأطفال الخاوية عن حجم الخواء المذهل في قدرة الأمة على الفعل، فأي مليارين من البشر أولئك العاجزين إلى حد الشلل التام عن التحرك لإطعام مليونين من أحبابهم ينهارون من الجوع الشديد أمام أعينهم.
فهل الأمة فاقدة للخيارات إلى هذا الحد، أم أن الخيارات كثيرة، وهي العاجزة لأسباب ذاتية عن التحرك؟
علما أن الشعوب والأمم لا تتحرك في العادة تعبيرا عن إراداتها السياسية إلا من خلال أجسام منظمة تفرزها لتحقق تطلعاتها التي تريد، وهذه الأجسام قد تكون أنظمة حكم، أو جماعات فعل لها مواقفها السياسية المتعارضة مع النظام الحاكم أو المتوافقة أو المحايدة.
وعندما لا تجد أمة من الأمم من كل من سبق تعبيرا عن إراداتها تنفجر غاضبة؛ لتضغط على الجميع من أجل التحرك نحو أهدافها، أو لتهدم ما سبق، مؤسسة بناءً جديدا قادرا على تلبية تطلعاتها.
والأمة الإسلامية اليوم إذا ما نظرنا إليها سنجدها جماهير عاجزة، تبكي بصمت، وتتألم بحرقة، لم تخرج لتعبر عن إراداتها بمظاهرات عارمة واسعة، ونخب تولول دون أي تأثير.
لدينا عشرات آلاف القرى والأحياء والبلدات في عالم إسلامي يمتد في عشرات الدول، لماذا لم تخرج تلك القرى والبلدات والأحياء في مسيرات يومية تبرأ إلى الله تعالى من جريمة السماح بتجويع طفل حتى الموت، وبكاء قرابة مليون طفل بين أيدي آبائهم طوال الليل من أجل لقمة يأكلون.
أين تلك القرى والبلدات والأحياء، ألم تسمع بما يجري في غزة، هل تبلدت لدرجة أنها نسيت الجذور الضاربة لقيمها، التي ترى في إطعام الناس ضيوفا، وعابري سبيل، ومحتاجين، ومجوعين، قيمة من أعظم قيمها التي تفخر بها منذ الجاهلية إلى اليوم.
لدينا عشرات آلاف المؤسسات والجمعيات والتكتلات، نقابات ومجالس طلاب، واتحادات قبلية وعشائرية، أين هؤلاء جميعا، أين المدارس والجامعات والمعاهد، لماذا غابوا، هل هم أحياء فعلا؟
هل يتحدثون عما يجري في غزة وعن أسبابهم عجزهم عن نصرتها، هل فضحوا الجريمة في كل مجلس، هل كتبوا عنها، ونشروا صورها في كل موقع تواصل اجتماعي وبكل لغة.
الذين يصلون على محمد عليه الصلاة والسلام، هل يدركون أن نبيهم الذي يحبون لا يرضيه بكاء أطفال نخبة كانت من صفوة أتباعه، وحملة لوائه في العالمين، المدافعين عن مسراه العظيم ومعراجه للقاء الله تعالى فوق السماء.
وهل حولوا ذلك الإدراك إلى أقل القليل، إلى كلمات، في كل أسرة ومجلس ولقاء ومحفل نقاش، ثم هل حولوه إلى فعل احتجاجي يهز أنظمة العار المقيدة لأمة كبيرة عن نصرة إخوانها؟
ثم أين النخب، أين المثقفون وقادة المجتمع وخطباؤه وعلماؤه وشعراؤه، لماذا فقدوا القدرة على تحريك الجماهير، وعلى تنظيمها، وحشدها، وابتكار أدوات تمكنها من التحرك في مئات المسارات الضاغطة لإطعام الجوعى.
أين هم من توعية الجماهير بحجم عجزها، وجوهر أزمتها، وأسباب ذلك، ومسؤولية حكامها عن هذه الجريمة، ومسؤولية الجماهير أمام التاريخ عما يجري، وعن قدرتها على الفعل لو تحركت بسيولها البشرية المهولة.
أين هم من التحريض ورفع الصوت احتجاجا، وعن قيادة الاعتصامات، وعن توظيف علاقاتهم ونفوذهم، وتنظيم أنفسهم ليكون حراكهم طويل الأمد، لماذا لم يتعلموا من تجربة المقاومة التي نظمت نفسها بحيث يفشل عشرون شهرا من القتل والتدمير في تفكيك بنيتها.
أدرك طبعا أن كثيرا من النخب مغيبة في سجون القهر والعدوان، لكن هذا لا ينطبق على كل الدول العربية والإسلامية، فدول كثيرة مثل الجزائر وأندونيسيا وماليزيا وتركيا ما زالت فيها مساحات مفتوحة لحراك أكثر تأثيرا مما نرى حتى اللحظة للأسف.
أما الأحزاب والجماعات والتكتلات السياسية الإسلامية وغير الإسلامية فقد فقدت تماما القدرة على التأثير، أثبتت الأزمة أنها لا شيء، أنها كتلة من العجز المطبق.
وهو ما يجب أن يدفعها للتفكير في واقعها، ومستقبلها، فهي ليست غاية في ذاتها، إنما وسيلة لتحقيق أهداف ضرورية على رأسها التعبير عن إرادة جماهيرها.
هذا يفرض على هذه الأحزاب أن تثور على ذاتها، وأن تدخل في عملية تغيير عميق، تستبدل فيها كل أفكارها السابقة، ومنظومة علاقاتها، ومعادلاتها التي تربطها بالأنظمة والمجتمع، وببعضها البعض، كما تغير أدواتها، وقياداتها، ورؤاها السياسية، وطريقة تنظيم أنفسها، وإلا ستظل كما هي على الأمة عبئا كبيرا.
فما قيمة أحزاب غير قادرة على فضح مؤامرة كبرى تحاك ضد جزء أساسي من أمتها، غير قادرة على الضغط على الأنظمة، غير قادرة على تحريك الجماهير، وتوعيتها وتنظيمها، غير قادرة على التواصل مع مؤسسات العالم ودوله لكسر الحصار.
لدينا مئات الأحزاب السياسية لم ينجح واحد منها في تحريك سفينة مساعدات إلى غزة، أو تحريك قافلة برية، أو ابتكار أداة تهز وجدان العالم تأثرا بما يجري في غزة، بل أن شابا في مقتبل العمر أحدث ضجة متعلقة بحصار غزة أكثر من أحزاب تضم آلاف العناصر.
المكون الأخير المهم من مكونات الأمة هي أنظمتها السياسية، وتنقسم إلى أنظمة معادية تماما للأمة، وأخرى تدعي قربا ولو نسبيا من تطلعاتها، لكنها جميعا لم تفعل أي شيء على الإطلاق.
فهل الأنظمة عاجزة فعلا، وهل الحل الوحيد أمامها أن تدخل حربا مع الكيان الإسرائيلي لو أرادت مواجهة سياسة التجويع الصهيونية في غزة؟
بالتأكيد وقطعا هذا الكلام غير صحيح، هذه الأنظمة تملك عشرات الأدوات الديبلوماسية والقانونية والاقتصادية والإعلامية لفرض إنهاء التجويع، بل المفاجئ أن دولا غربية مختلفة أعلى صوتا من غالبية الدول العربية والإسلامية في انتقاد التجويع.
تستطيع هذه الدول أن تقطع علاقاتها السياسية والأمنية والاقتصادية مع الاحتلال حتى إدخال الطعام لغزة.
وتستطيع أن تسحب دول الطوق جنودها من على الحدود لترك الاحتلال أمام الجماهير وحده.
وتستطيع أن تغلق المجالات الجوية أمامه، وتستطيع أن تغلق المنافذ البحرية في وجهه، وتستطيع أن تعلن للعالم أنها ستقلص إنتاج الغاز والنفط بنسبة 5% يوميا حتى وقف التجويع.
وتستطيع أن تسمح للجماهير بالتحرك في مسيرات عارمة أمام السفارات الغربية في كل العواصم العربية والإسلامية، وتستطيع أن ترفع الضرائب على شركات الدول الداعمة للكيان عسكريا، وتستطيع أن تغلق موانئها ومطاراتها في وجه تلك الشركات.
وهكذا في عشرات الخطوات التي ستجبر الاحتلال على وقف الإبادة والتجويع فورا، ذلك أنه لا مجال للتأثير على العدو إلا بالضغط على مصالحه ومصالح داعميه، وما أكثرها بين أيدينا، لكن الأمم الميتة لا تؤلمها جراحها، وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم.