مقال: أ. أسامة حرارة
في ظل الأوضاع المتأزمة التي يشهدها قطاع غزة، تبرز خطة الكابينت الإسرائيلي، بتوجيه من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، نحو “الاحتلال الكامل” لمدينة غزة أولًا، ثم التوسع جنوبًا، كنقطة تحول محورية قد تدفع بالمنطقة إلى هاوية أعمق. هذه الخطة، التي تُعدّ الأخطر منذ اندلاع الحرب الأخيرة، لا تكتفي بوضع أهداف عسكرية بحتة، بل ترسم ملامح سيطرة أمنية وإدارية شاملة، مثيرة بذلك تساؤلات جدية حول جدواها، تداعياتها الإنسانية، واستقرار المنطقة على المدى الطويل.
تتضمن الخطة المعلنة خمسة أهداف رئيسية: نزع سلاح حركة حماس، وإعادة جميع الأسرى، ونزع السلاح الكامل لقطاع غزة، وفرض سيطرة أمنية إسرائيلية، وإقامة إدارة مدنية بديلة لا تتبع لحماس ولا للسلطة الفلسطينية. هذه الأهداف، وإن بدت واضحة في ظاهرها، إلا أن آليات تحقيقها تبدو معقدة ومتناقضة. فبينما صرح نتنياهو بأن إسرائيل لا تريد حكم غزة بشكل مباشر، تتضمن الخطة سيطرة أمنية إسرائيلية كاملة وإقامة إدارة مدنية بديلة. هذا التناقض الجوهري يكشف عن رغبة في تحقيق نفوذ وسيطرة دون تحمل كامل الأعباء والمسؤوليات المترتبة على الاحتلال المباشر.
المراحل الثلاث المقترحة لتنفيذ الخطة – بدءًا بإدخال المساعدات الإنسانية، مرورًا بنقل السكان إلى جنوب القطاع ومعسكرات الوسط، وأخيرًا السيطرة الكاملة على المدينة – تثير بدورها علامات استفهام كبيرة. فكيف يمكن تحقيق “السيطرة الكاملة” على مدينة مدمرة ومكتظة بقرابة مليوني إنسان دون الانزلاق في مستنقع المسؤوليات المدنية والأمنية المعقدة؟ ومن سيتولى إعادة إعمار البنية التحتية المنهارة؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة ليست مجرد تفاصيل إجرائية، بل هي جوهر تحدي هذه الخطة.
ما يزيد من تعقيد الموقف هو الانقسام الواضح داخل إسرائيل حول هذه الخطة. ففي حين تدعم الفئات اليمينية التصعيد العسكري كحل وحيد، يدعو الجيش الإسرائيلي وقادة أمنيون بارزون إلى تجنب إثقال كاهل الدولة بمسؤولية إدارة قطاع مدمر ومأهول بالسكان. هذه التحذيرات ليست مجرد آراء سياسية، بل هي نابعة من خبرة ميدانية وتفهم عميق للتحديات الأمنية والإنسانية التي ينطوي عليها الاحتلال الكامل.
تتجاوز المخاوف الجوانب اللوجستية والعسكرية لتصل إلى البعد الإنساني والأخلاقي. فقرار المضي قدمًا في هذه الخطة يأتي رغم تحذيرات قادة الجيش من أخطار عسكرية ومسؤوليات إنسانية جمة. الأهم من ذلك، أن عائلات الرهائن في غزة قد أعربت عن تخوفها من أن يشكّل التصعيد العسكري “حكمًا بالإعدام” على ذويهم. هذا الصراع بين الأهداف العسكرية المعلنة وسلامة الرهائن يضع الحكومة الإسرائيلية في مأزق أخلاقي وقيمي. تجاهل هذه التحذيرات الداخلية قد يؤدي إلى استنزاف للموارد البشرية والاقتصادية، وإلى تفاقم الشرخ المجتمعي الإسرائيلي.
على الصعيد الدولي، أثار المخطط انتقادات واسعة، ووُصف بأنه خطوة خطيرة ستزيد من سوء الأزمة الإنسانية وتفاقم عزلة إسرائيل دبلوماسيًا. إن إعادة الاحتلال الكامل لغزة لا يفاقم مشكلة الاحتلال القائمة فحسب، بل قد يُعرّض إسرائيل لردة فعل دولية شديدة، ويعزز الاتهامات الموجهة ضد نتنياهو، بما في ذلك قضايا لدى المحكمة الجنائية الدولية.
إذا مضت إسرائيل قدمًا في خطة الاحتلال، فإن التداعيات الإنسانية ستكون كارثية بكل المقاييس. نتحدث عن مزيد من التهجير الجماعي، وتفاقم أزمة التجويع الممنهج الذي يفرضه الاحتلال على القطاع عبر سياسات الحصار والفوضى، التي قد تتجلى في استغلال الميليشيات للمساعدات بحماية الاحتلال. إن قطاع غزة يقف اليوم على مفترق طرق خطير، حيث تتلاطم أمواج الاحتلال والسيطرة والحصار، وتهتز فيه أركان حياة 2 مليون من البشر. الوضع بات يوصف بـ “النهاية القريبة” إن لم يتلقَ دعمًا جادًا وفوريًا. فقد أدى استمرار الحصار إلى انهيار شبه تام في البنية التحتية، وانقطاع كامل للكهرباء والمياه الصالحة للشرب، مما زاد من خطر تفشي الأمراض ومستوى المجاعة الكارثي.
علاوة على ذلك، يثير البعض مخاوف بشأن خطة لنقل السكان إلى دول أخرى، وهو ما يراه المنتقدون بمثابة ترحيل قسري تحت غطاء “إعادة التوطين الطوعي”. هذا السيناريو، إذا ما تحقق، سيشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني ويزيد من تعقيد الأزمة الإقليمية.
يبدو أن الحكومة الإسرائيلية تستند في هذه الخطة إلى استراتيجية “أقصى قوة في أقصر وقت” لدفع سكان غزة جنوبًا نحو منطقة المواصي، مما يدعم خطة “الهجرة الطوعية” (التهجير). هذه الاستراتيجية، التي قد تستمر لخمسة أشهر وتتطلب تعبئة واسعة النطاق لجنود الاحتياط، تركز على الحل العسكري كأولوية قصوى، مما يقلل من فرص عودة حماس إلى المفاوضات.
إن هذا النهج التصعيدي لا يخدم أي حل سياسي مستدام. فالحل العسكري البحت، خاصة في بيئة معقدة ومتفجرة كغزة، غالبًا ما يولد المزيد من التطرف والعداء، ويطيل أمد الصراع بدلاً من إنهائه. الحكومة الإسرائيلية أمام خيار صعب: إما التورط في احتلال باهظ التكاليف ومليء بالمخاطر الأمنية والإنسانية، مع ما يجلبه من عزلة دولية وعبء داخلي، أو البحث عن حلول أخرى قد لا تلقى قبولًا من اليمين المتطرف. هذا يعكس الانقسام العميق داخل المجتمع الإسرائيلي حول مستقبل غزة، وهو انقسام قد يعيق أي تقدم نحو سلام عادل وشامل. فهل يمكن تحقيق الأمن والاستقرار عبر استراتيجية تزيد من اليأس والمعاناة؟ وهل يعي صناع القرار أن الحلول العسكرية البحتة نادرًا ما تحقق سلامًا دائمًا؟