هل تشكل الضغوط الأوروبية على إسرائيل نقطة تحول في الموقف الأوروبي؟

مقال: أ. أسامة حرارة

لم يعد الصمت أو الإدانة الخجولة هي السمة الغالبة على الموقف الأوروبي تجاه الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. فبعد أشهر من الصراع الذي خلف دمارًا هائلاً وأزمة إنسانية غير مسبوقة، نشهد الآن تحولًا لافتًا في ديناميكيات العلاقة بين أوروبا وإسرائيل. لم تعد العواصم الأوروبية تكتفي ببيانات الإدانة المعتادة، بل بدأت تترجم استياءها المتزايد إلى خطوات عملية ذات تأثير محتمل على العلاقات السياسية والاقتصادية. هذا التحول ليس مجرد رد فعل عاطفي، بل هو نتيجة لإدراك متزايد بضرورة اتخاذ موقف أكثر حزمًا، خاصة بعد فشل الدبلوماسية في إحداث أي تقدم ملموس، وتزايد التقارير الدولية التي تشير إلى انتهاكات محتملة للقانون الدولي.

يُعد الاتحاد الأوروبي الفاعل الأبرز في ممارسة هذا الضغط، حيث اتخذت عدة دول أعضاء خطوات جماعية وغير مسبوقة تهدف إلى إعادة تقييم العلاقة مع إسرائيل بشكل شامل. في خطوة لافتة، طالبت تسع دول أوروبية مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، بوقف التعاون التجاري مع المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. هذه المطالب ليست عفوية، بل تستند إلى رأي استشاري لمحكمة العدل الدولية أقر بأن الاحتلال والمستوطنات غير قانونيين، مما يمنح هذه الدول سندًا قانونيًا ودبلوماسيًا قويًا لخطواتها.

إلى جانب ذلك، وافقت سبع عشرة دولة عضو في الاتحاد الأوروبي على مراجعة اتفاقية الشراكة مع إسرائيل التي وُقعت عام 1995. تكمن أهمية هذه المراجعة في تركيزها على المادة الثانية من الاتفاقية التي تنص صراحة على ضرورة احترام حقوق الإنسان. هذه المادة لطالما كانت نقطة جدل، ولكن اليوم، ومع وجود تقارير لدائرة العمل الخارجي الأوروبية تشير إلى “مؤشرات” على انتهاكات محتملة، فإن مراجعة الاتفاقية قد تفتح الباب أمام إجراءات أكثر صرامة، قد تصل إلى تعليق الاتفاقية نفسها. ومع حجم تبادل تجاري يبلغ 42.6 مليار يورو سنويًا، فإن هذه الورقة الاقتصادية تعد أداة ضغط قوية يصعب على إسرائيل تجاهلها.

لم يقتصر الضغط على التحركات الحكومية، بل امتد إلى البرلمان الأوروبي الذي يمارس ضغوطًا متزايدة. ففي جلسات متعددة، أدان البرلمان الممارسات الإسرائيلية في غزة، وخلص إلى أن إسرائيل مسؤولة عن منع دخول المساعدات الإنسانية واستخدام القوة بشكل غير متناسب. هذه الإدانات لم تكن مجرد تصريحات، بل ترافقت مع مطالبات متزايدة من النواب بفرض عقوبات فورية ومباشرة على تل أبيب.

ولمواكبة هذا الزخم، كلفت كايا كالاس بصياغة قائمة بالتدابير المحتملة التي يمكن استخدامها للضغط على الحكومة الإسرائيلية. وتشمل هذه القائمة خيارات متعددة ومتدرجة في تأثيرها، مثل فرض حظر على الأسلحة، وتعليق المزايا التجارية، ومنع إسرائيل من الاستفادة من برامج التمويل الأوروبية، مثل برنامج “هورايزون” للأبحاث، وتشديد شروط الدخول للمواطنين الإسرائيليين، وصولاً إلى فرض عقوبات على سياسيين إسرائيليين بعينهم. تُظهر هذه القائمة أن الاتحاد الأوروبي يمتلك مجموعة شاملة من الأدوات التي يمكنه استخدامها في حال استمرت الأزمة. ورغم أن بعض هذه الإجراءات، مثل فرض العقوبات، يتطلب موافقة جماعية قد تعرقلها دول مثل ألمانيا، فإن الإجراءات المتعلقة بالتجارة يمكن تنفيذها بأغلبية الأصوات، مما يجعلها خيارات أكثر واقعية.

إلى جانب الضغوط الجماعية، اتخذت بعض الدول خطوات فردية تعكس تزايد حالة الاستياء. في المملكة المتحدة، أوقفت الحكومة محادثاتها حول اتفاقية تجارية جديدة. أما في ألمانيا، ورغم دعمها التقليدي لإسرائيل، فقد علقت الحكومة تصدير الأسلحة التي قد تستخدم في غزة، وهي خطوة تحمل دلالة سياسية قوية.

وعلى المستوى الدولي الأوسع، انضمت تركيا إلى قائمة الدول التي تتخذ إجراءات حاسمة، حيث أعلنت وزارة التجارة التركية تعليق جميع الصادرات والواردات من وإلى إسرائيل. هذه الخطوة، التي جاءت بعد فشل الجهود الدبلوماسية، تمثل تصعيدًا اقتصاديًا كبيرًا يضاف إلى الضغوط الأوروبية، وتؤكد أن النطاق الجغرافي للمعارضة يتوسع ليشمل قوى إقليمية ودولية.

لم تمر هذه الضغوط دون رد من الجانب الإسرائيلي. فقد نددت تل أبيب بهذه التحركات، واعتبرها المتحدث باسم الخارجية الإسرائيلية “سوء فهم للواقع المعقد”. وفي خطوة تهديدية، تدرس الحكومة الإسرائيلية سحب تعاونها الأمني والدفاعي مع المملكة المتحدة إذا ما مضت قدمًا في الاعتراف بدولة فلسطينية.

تتعامل إسرائيل مع هذه الضغوط من خلال عدة استراتيجيات، أبرزها التركيز على الجانب الأمني وتبرير أفعالها بضرورات الدفاع عن النفس، بالإضافة إلى التقليل من شأن هذه الضغوط. والأهم من ذلك، فإنها تستغل الانقسامات الأوروبية، حيث تعلم أن بعض الإجراءات تتطلب إجماعًا يصعب تحقيقه، مما يتيح لها فرصة للمناورة والتملص من بعض التبعات.

إن التحول في الموقف الأوروبي تجاه إسرائيل، من الإدانة إلى التحركات الفعلية، يعكس نقطة تحول حقيقية في ديناميكيات الصراع. فبينما كانت الدول الأوروبية تكتفي في الماضي بالتنديد اللفظي، تشير التحركات الأخيرة إلى استعدادها لاتخاذ إجراءات قد تؤثر بشكل مباشر على العلاقات الاقتصادية والسياسية. يظل السؤال الأهم هو ما إذا كانت هذه الضغوط ستكون كافية لإحداث تغيير حقيقي على الأرض، أم أنها ستظل مجرد خطوات رمزية في مواجهة صراع طويل الأمد ومواقف سياسية معقدة.

 

54
اترك التعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *