المواقف الغربية الأخيرة من الاحتلال الإسرائيلي .. أسبابها وتأثيراتها

مقال: أ. سليمان أبو ستة

تطورت المواقف الغربية من الاحتلال الإسرائيلي، منتقلة من تأييد مطلق في السابع من أكتوبر، إلى إدانات علنية غير مسبوقة مع تصاعد وتيرة المجاعة في قطاع غزة.

ولا يعني هذا أن تلك الدول غيّرت موقفها من الحقوق الفلسطينية والمقاومة التي تسعى للحصول عليها، بقدر ما يعني أن تلك الدول باتت ترى -من وجهة نظري- في السلوك الصهيوني خطرا كبيراً يمس بكيان الاحتلال نفسه، قبل أن يمس بها، وباستقرارها، وقيمها المعلنة، وقوانينها، التي تسعى من خلالها للهيمنة على الرأي العام العالمي، مظهرة أنها الراعية الأساسية للحقوق والقانون والنظام في العالم.

فقد أعلنت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا وفرنسا وألمانيا دعمها الصريح للاحتلال في السابع من أكتوبر، وقدمت كل من الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا دعما عسكريا مباشرا له، وأدانت بقية الدول الغربية عملية السابع من أكتوبر مساندة للاحتلال ديبلوماسيا وسياسيا.

إلا أن مواقف كثير من تلك الدول بدأت بالتغير تدريجيا، وصولا إلى إدانات علنية لسلوك الاحتلال، ودعوات صريحة له بإنهاء حرب الإبادة، ووقف سياسة التجويع ضد قطاع غزة.

فقد عارض مسؤولون غربيون عدة خطة إسرائيل للسيطرة على مدينة غزة، حيث قال وزير خارجية النرويج إن سيطرة إسرائيل على قطاع غزة بالكامل انتهاك غير مقبول للقانون الدولي، أما وزير خارجية هولندا فقد وصف الخطة بأنها خاطئة، وأن الوضع الإنساني كارثي، ويتطلب تحسينا فوريا، وهو ما أكده أيضا وزير خارجية السويد الذي قال إن أي محاولة إسرائيلية لضم غزة ستكون مخالفة للقانون الدولي.

وهو ما انعكس في على موقف رئيس المجلس الأوروبي الذي أكد وجوب أن يكون لقرار إسرائيل الاستيلاء على غزة عواقب على العلاقات بين الاتحاد وإسرائيل وأن سلوكها الحالي انتهاك للاتفاق مع الاتحاد.

بينما قالت رئيسة وزراء الدنمارك إن بلادها تريد الاستفادة من تسلم رئاسة الاتحاد الأوروبي للضغط على إسرائيل وفرض عقوبات عليها، أما وزيرة خارجية السويد فقد قالت: نريد أن يتخذ الاتحاد الأوروبي إجراءات ضد إسرائيل، كتجميد الجزء التجاري في اتفاق الشراكة.

أما أسبانيا فقد دعت نائبة رئيس حكومتها لتعليق كل المعاهدات مع إسرائيل، مؤكدة أن على الاتحاد الأوروبي التوقف عن شراء سلاح منها، وأن التعامل مع الشركات الإسرائيلية دعم للاقتصاد القائم على الإبادة، بينما طالب وزير الخارجية الأسباني الاتحاد الأوروبي باتخاذ إجراء فوري لمنع موجة جديدة من العنف الإسرائيلي في غزة.

وفي خطوة عملية أعلنت الحكومة السلوفينية أنها أصبحت أول دولة أوروبية تحظر استيراد وتصدير ونقل الأسلحة إلى إسرائيل ومنها، مجددة التأكيد أنها ستتصرف بشكل مستقل إذا لم يتخذ الاتحاد الأوروبي تدابير بشأن إسرائيل.

أما الموقف الألماني فقد كان غير مسبوق من الاحتلال الإسرائيلي لدرجة أن وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير قد ذكر بأنه بعد 80 عاما على الهولوكوست تعود ألمانيا لدعم النازيين، وذلك بعد أن قالت نائبة زعيم الكتلة البرلمانية للحزب الحاكم في ألمانيا إن على برلين دراسة فرض عقوبات على إسرائيل، ومن خيارات تلك العقوبات تعليق تصدير الأسلحة.

وهو ما أعلنه المستشار الألماني بقوله قررنا تعليق صادرات عتاد عسكري إلى إسرائيل يُتوقع استخدامه في غزة، وذلك حتى إشعار آخر، معربا عن أنه يشعر بقلق بالغ إزاء استمرار معاناة السكان المدنيين في غزة، وهو ما تُرجم إسرائيليا بهجوم من قبل نتنياهو على المستشار الألماني أثناء محادثة هاتفية بينهما وُصفت بأنها متوترة.

ولم يقتصر هذا التوتر على العلاقة بين نتنياهو والمستشار الألماني؛ بل طال أيضا رئيس الحكومة الأسترالية، حيث قال مكتب نتنياهو في تصريح صحفي بأن التاريخ سيذكر رئيس وزراء أستراليا كسياسي ضعيف خان إسرائيل، وتخلى عن يهود أستراليا.

جاء ذلك عقب إعلانه أن غزة تعيش كارثة إنسانية، وأن منع إسرائيل للمساعدات وقتلها للمدنيين لا يمكن تجاهله، داعيا إياها للامتثال فورا لالتزاماتها بموجب القانون الدولي.

ما سبق جعل معهد دراسات الأمن القومي في إسرائيل، ومسؤولين سابقين في وزارة الخارجية الإسرائيلية يحذرون من عواقب كبيرة لتغير المزاج الدولي من السلوك الإسرائيلي، قد تشمل عقوبات، ومنع تصدير أسلحة، وإلغاء التأشيرات لحملة الجواز الإسرائيلي، وتدهور مكانة إسرائيل لدى الرأي العام الغربي.

وإذا ما بحثنا في طبيعة التغيير في الموقف الغربي من الاحتلال الإسرائيلي، وأسبابه، سنجد بداية أنه ليس تغييرا جوهريا مرتبطا بأفعال؛ بقدر تعبيره عن كلمات لا تمثل -رغم أهميتها ودلالاتها- تغييرا حقيقيا على الأرض، فالسياسة في جوهرها أفعال لا أقوال، والأقوال في إطارها ضئيلة التأثير غالبا.

ولفهم ذلك لنا أن نتخيل مواقف الدول الغربية من أي دولة -ليست جزءاً من منظوماتها الثقافية- تقوم بتجويع المدنيين، وتحرم الأطفال من الحصول على الحليب، وتمنع المرضى من تلقي الأدوية، وتهاجم المستشفيات علنا، وتقصف الخيام على رؤوس من فيها من أطفال بذريعة وجود مقاومين، وكأن ذهاب جندي إسرائيلي لزيارة طفلته في روضة أطفال يبيح للمقاومة الفلسطينية قتل كل من تلك الروضة بسبب وجود ذلك الجندي، وهي ذاتها الذريعة الإجرامية التي يروجها الاحتلال.

فقد كان بإمكان الدول الغربية لو أرادات وقف الإبادة بأن تعلن فورا قطع العلاقات الاقتصادية والديبلوماسية مع إسرائيل، وتمنع مرور سفنها وطائراتها عبر أراضيها وأجوائها وممراتها المائية، وتعلق أي صادرات إليها، حتى تتوقف الإبادة والتجويع.

وسيتوقف ذلك فورا، لأن إسرائيل لا تحتمل يوما واحدا دون إسناد غربي، وهذه السلوكيات ليست صعبة، كما قد يتصور البعض، فقد جرى أكثر منها بحق روسيا، وهي الدولة الأكبر مساحة وسكانا وقدرة عسكرية وأمنية من كيان الاحتلال بمئات المرات.

بل إن جزءاً كبيرا من المواقف الغربية لم يكن ضد إسرائيل ككيان، وإنما ضد نتنياهو وحكومته ومواقفه، التي خرجت عن رؤية الغرب لطبيعة إسرائيل ودورها وحدود تأثيرها، حيث يريد الغرب في غالبيته دولتين في فلسطين المحتلة، واحدة لليهود وأخرى للفلسطينيين دون تهجيرهم، وذلك لأن التهجير القسري يعني وصول ملايين اللاجئين إلى الغرب، واستمرار حالة التوتر في المنطقة.

وبالتالي يحاول الغرب لجم نتنياهو وتقييده وإعادته إلى المسار السابق، وهو قتل الفلسطينيين بصمت وبوتيرة منخفضة، تقضي عليهم خلال عقود، وليس بهذا الشكل المتسارع، الذي قد يقود إلى انفجار كبير في المنطقة، وقد يعيد إحياء حالة الغضب سواء داخل الأمتين العربية والإسلامية بثورات شعبية، أو خارجهما بتنظيمات مسلحة تهاجم أهدافا غربية على غرار الحادي عشر من سبتمبر.

ولذلك تظل المواقف الغربية إذا استمرت بالوتيرة ذاتها ضئيلة التأثير، وكل ما ستقود إليه الضغط على الاحتلال لزيادة نسبة وصول المساعدات الغذائية لقطاع غزة، وتخفيف حدة الهجوم على القطاع الصحي، والتقليل إلى حد ما من أعداد الضحايا، لكن تغييرا جوهريا لن يحدث ما لم ينتقل الغرب من الأقوال إلى الأفعال.

26
اترك التعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المشاركات الأخيرة: