سائقو الشاحنات في غزة.. مهنة محفوفة بالموت والخوف اليومي

تقرير صحفي: أميرة نصَّار

مع إشراقة كل صباح، يضع محمود* بجوار مقعد القيادة زجاجة ماء وعلبة طعام أعدّتها زوجته لتشاركه في يومه الشاق داخل الشاحنة التي يمضي فيها جُلَّ وقته. فيما يستند إلى المقود، سرعان ما تلوح أنامله لزوجته وأفراد أسرته السبعة بالوداع، وينطق جملته المعهودة: “وديروا بالكم على بعضٍ في غيابي”. ينطلق بشاحنته وسط أجواء مفزعة من القصف الإسرائيلي متجهًا نحو معبر “زيكيم” شمالي قطاع غزَّة. أمضى محمود 29 عامًا في العمل كسائق شاحنة لنقل مواد البناء والسلع الغذائية والتموينية والبضائع والسلع التجارية.

“طالع وواضع روحي على كفيّ”، يحدثنا محمود (47 عامًا) عن تجربته في قيادة شاحنات المساعدات التي ينقلها إلى المؤسسات الإغاثية الدولية، التي توزعها على المُجوعين داخل قطاع غزَّة.

يوميًا أقود الشاحنة لمسافة 10 كيلومترات؛ تسير العجلات على شوارع مليئة بالمطبات من ركام البيوت والمسامير وأسياخ الحديد التي تؤدي إلى تأكل العجلات، فيما تعيق الطريق الترابية الرؤية في ساعات العمل المتأخرة وتسبب الكثير من الأعطال في الشاحنة، يقول محمود.

وعن الإجراءات التي يتم القيام بها فور دخول السائقين إلى المعبر، يعلق: “مع دخول سائقي الشاحنات إلى المعبر، يتم سحب الهواتف الخلوية وارتداء السترة ذات اللون الفسفوري المخصصة لسائقي الشاحنات، ونُمنع من الخروج من الشاحنة إلا للفحص وتفقد الشاحنة أو التحقق من سلامة العجلات”.

سائقو الشاحنات في غزة.. مهنة محفوفة بالموت والخوف اليومي
سائقو الشاحنات في غزة.. مهنة محفوفة بالموت والخوف اليومي

وعن التحديات اليومية التي يواجهها سائقو الشاحنات في العمل يقول، إن العمل غير مرتبط بساعات محددة، حسب الاتصال الذي تتلقاه المؤسسة الإغاثية من الجانب الإسرائيلي في إدارة المعبر للحصول على التنسيق والموافقة على الدخول وتحميلها ونقلها إلى مقرات المؤسسات الإغاثية.

يتابع سائق الشاحنة: “ساعات الصباح التدقيق والإجراءات الأمنية مشددة من الجانب الإسرائيلي من كاميرات المراقبة وتحليق مكثف من مسيرات الكوادكوبتر، ومقابلة جنود الاحتلال وجهًا لوجه، بينما في ساعات الليل المتأخرة تتضاعف الخطورة بسبب عتمة الليل وسلوك الطريق الوعرة والمحطمة، بالإضافة إلى المعيقات والكمائن التي يضعها اللصوص في طريقنا من متاريس وحجارة تتسبب في إعاقتنا عن الوصول وتهدد سلامتنا الشخصية”.

في الأوقات الطبيعية يستمر عمل سائقي الشاحنات لأكثر من 9 ساعات، بينما مع ضغط العمل يمتد لعدة أيام تصل إلى المبيت داخل الشاحنة.

ويكشف السائق محمود، عن ما تفعله قوات الاحتلال بالسائقين: “نُعرّض حياتنا للخطر ونترك عائلاتنا لعدة أيام؛ في كثير من الأوقات ينفد الماء والطعام، ونواجه الإذلال من القوات الإسرائيلية، والتعرّض لعمليات تفتيش وساعات انتظار مطولة وتعليمات غامضة، تصل حد العنف والضرب دون أي سبب أو مخالفة للتعليمات، إنما وفق مزاجية الجندي”.

يضيف محمود: “تجربة العمل منذ بداية الحرب صعبة ومؤلمة، مليئة بالمخاطر والمخاطرة تفوق الـ1000%، من الإرهاق والعمل المتواصل، والتعرّض للأذى من قبل اللصوص وحتى المُجوعين، والخوف عليهم عند تلقي التعليمات من الجانب الإسرائيلي بقيادة الشاحنة دون توقف؛ وفي حال التوقف ستعرض نفسك والشاحنة للموت الفوري”.

يقول: “بعض سائقي الشاحنات توقفوا عن العمل لقلقهم من الاحتلال الإسرائيلي وإجراءاته وعدم مقدرتهم على تحرير أنفسهم من الحشود الكبيرة من الناس، لكن الظروف المعيشية التي أعيشها لا تسمح لي بترك العمل وإعالة أفراد أسرتي السبعة”.

السائقون دروعًا بشرية

علي* (32 عامًا) عمل سائقًا للشاحنات مدة عام ثم توقف عن العمل في المهنة نهائيًا، بعدما استخدمه جنود الاحتلال الإسرائيلي كدرعٍ بشري في مدينة رفح أثناء دخولها وتمشيطها.

يحدثنا علي بنبرة صوت مختنقة: “كالعادة تلقيت اتصالًا بالتوجه إلى معبر كرم أبو سالم جنوب القطاع لنقل المواد الإغاثية والتموينية. حين وصلت طلب مني الجنود النزول من الشاحنة برفقة ثلاثة سائقين؛ بعدها قاموا بنقلنا إلى نقطة تجمع جنود الاحتلال الإسرائيلي. شعرت بالخوف وظننت أنه أمر روتيني لإجراء تحقيق سريع ثم العودة للشاحنة مرة أخرى”.

يتابع الشاب الثلاثيني: “استخدمنا جنود الاحتلال الإسرائيلي دروعًا بشرية في مدينة رفح، وكانوا يضعوننا ويتنقلون بنا في الدبابة؛ بعدها وضعوا على أجسادنا كاميرات مثبتة كانت تصور الأحياء والمنازل التي يجبروننا على دخولها وتفتيشها من أجل التأكد من خلوها من السكان والمقاتلين عبر تعريض أنفسنا للخطر بدلاً من أن يعرض الجندي الإسرائيلي نفسه للخطر”.

يضيف: “بعد العودة من تفقد البيوت والأحياء يقوم الجنود بتفريغ المشاهد التي تم تصويرها، ونعود في اليوم التالي للمهمة الخطرة ذاتها التي استمرت معاناةً وخوفًا على مدار ثلاثة أشهر”.

وختم، بالقول: “بعدما نلت حريتي اعتزلت المهنة نهائيًا. بالأمس نجوت رغم كوني سائقًا مدنيًا تم فحصي أمنيًا عدة مرات، لكنني بعد ذلك لا أضمن ماذا يمكن أن يفعل جنود الاحتلال، وخصوصًا مع عدم وجود قوانين ومواثيق تحمي حقوق السائقين”.

الحماية الدولية مُغيبة

من جانبه، يقول ناهض شحيبر، رئيس جمعية النقل الخاص في غزَّة: “يُسمح يوميًا بإدخال 100 شاحنة فقط إلى قطاع غزة، بواقع 50 شاحنة عبر معبر زيكيم شمالًا و50 شاحنة عبر معبر كرم أبو سالم جنوبًا، لتلبية احتياجات المحاصرين داخل القطاع”.

ويتابع: “يتواصل سائقو الشاحنات مرة واحدة يوميًا، بناءً على إصدار التنسيق من الجانب الإسرائيلي، بالتعاون مع المؤسسات الدولية، أبرزها: مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، وبرنامج الأغذية العالمي (WFP)، ومنظمة الأغذية والزراعة (FAO). بعد ذلك يتلقى السائقون الاتصالات في أوقات غير محددة، إما في ساعات الفجر أو في وقت متأخر من الليل، لنقل المواد التموينية والإغاثية إلى مقرات المؤسسات الإنسانية”.

سائقو الشاحنات في غزة.. مهنة محفوفة بالموت والخوف اليومي
سائقو الشاحنات في غزة.. مهنة محفوفة بالموت والخوف اليومي

ويضيف: “يعرض السائقون أنفسهم لمخاطر جسيمة، إذ تطلق قوات الاحتلال الإسرائيلي النار عليهم وعلى شاحناتهم، كما تهاجمهم عصابات اللصوص وتقوم بسرقة المواد التموينية والإغاثية”.

وكشف رئيس جمعية النقل الخاص في غزَّة، ناهض شحيبر، عن قيام قوات الاحتلال الإسرائيلي باختطاف عدد من سائقي الشاحنات من داخل المعابر، واستخدامهم كدروع بشرية في مناطق القتال الخطرة، بالإضافة إلى زج العديد منهم في السجون الإسرائيلية لعدة أشهر، رغم اجتيازهم الفحص الأمني.

ويؤكد شحيبر بأن “قوات الاحتلال قتلت عشرة سائقين بشكل متعمِّد، واعتقلت عشرين آخرين لعدة أشهر ولا يزالون في الأسر، بينما فقدنا الاتصال بسائقين اثنين ولا تتوفر لدينا أي معلومات عنهما. كما يُجبر الجنود الإسرائيليون السائقين في معبر كرم أبو سالم على تهريب السجائر إلى العصابات المنتشرة جنوب القطاع لبيعها وتقاضي ثمنها”.

ويعلق شحيبر: “جميع سائقي شاحنات المساعدات الإنسانية يخضعون للموافقة الأمنية قبل دخولهم الأراضي، ويتم التصديق على دخولهم من قبل جهاز الأمن العام الإسرائيلي”.

ويختتم حديثه قائلًا: “يعمل السائقون تحت الخطوط الحمراء، في ظروف خطرة وصعبة للغاية، دون وجود قوانين أو حماية دولية تضمن سلامتهم من انتهاكات قوات الاحتلال الإسرائيلي”.

*الأسماء مستعارة حفاظًا على خصوصية الأشخاص.

21
اترك التعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المشاركات الأخيرة: