فكرة حسم الصراع وانعكاساتها على السلوك الصهيوني تجاه الفلسطينيين

مقال: أ. سليمان أبو ستة

يرى اليمين الذي يحكم إسرائيل اليوم أن المشكلة الأهم التي يعاني منها الكيان، -أي استمرار المقاومة الفلسطينية- ناجم عن عدم حسم الصراع.

وحسم الصراع من وجهة نظرهم يعني إقناع الفلسطينيين بأنهم هُزموا، ولا يمكن أن يحققوا أي شيء من خلال التمسك بحقوقهم الوطنية، وإلغاء أي إمكانية لقيام أي كيان سياسي فلسطيني، فلا مجال في فلسطين إلا لقومية واحدة هي القومية اليهودية.

وإذا صارت الدولة الفلسطينية مستحيلة من وجهة نظر أولئك، فليس أمام الفلسطينيين إلا ثلاثة خيارات، أما أن يبقوا كأفراد دون أي كيانية سياسية تمثلهم، وإما الهجرة خارج فلسطين، وإما سحقهم من خلال القوة العسكرية غير المسبوقة.

ويرى أصحاب هذا الرأي أن الصراع مع الفلسطينيين يجب أن يُحسم تماما لا أن يُدار كما تم خلال العقود الماضية، وأن أي تنازل للفلسطينيين لن يحقق الهدوء للإسرائيليين وإنما سيعزز شهية الفلسطينيين للسعي وراء مزيد من المكاسب.

ولذا لابد من حسم عسكري نفسي يجعل الفلسطينيين يقرون بشكل جازم باستحالة هزيمة إسرائيل.

ووسيلة حسم الصراع هي اتخاذ الإجراءات الكفيلة بجعل إمكانية قيام دولة فلسطينية مستحيلا، عبر فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة، وتوسيع الاستيطان ليصبح واقعا غير قابل للتغيير، وتمزيق أراضي الضفة جغرافيا من خلال الاستيطان والحواجز، وتكثيف السيطرة الأمنية على الأرض، وتهجير السكان الفلسطينيين داخليا من مناطق إلى أخرى، أو خارجيا بطردهم خارج الضفة، أو غزة كما يتم الحديث علنا هذه الأيام.

وتعود جذور هذه الفكرة إلى السياسي الصهيوني جابوتنسكي الذي كان أحد رموز الحركة الصهيونية في ثلاثينيات القرن الماضي، والذي ابتكر نظرية الجدار الحديدي، التي تقول بأن العرب لن يقبلوا بوجود إسرائيل، وبالتالي لابد من فرضها بأقصى قدر من القوة، حتى ييأسوا من إمكانية الانتصار، ويستسلموا تماما لوجودها.

لاحقا وفي عام 2017 عرض وزير المالية الحالي سموتريتش رؤيته لحسم الصراع، حيث يعد أحد أهم من روجوا للفكرة خلال السنوات الأخيرة، والتي تقوم على إكمال السيطرة على الضفة بما يجعل من المستحيل إقامة دولة فلسطينية، يرى أنها تمثل تهديدا وجوديا على اليهود، قائلا: نحن مصممون على حذفها من التداول.

ومن أجل تنفيذ إسرائيل لمخطط حسم الصراع في الضفة تتجه لتغيير الوقائع على الأرض سياسيا وميدانيا، من خلال نشر الحواجز والبوابات الحديدية، التي وصل عددها ألفا، بمعنى أن لكل ألفي مواطن في الضفة هناك بوابة أو حاجز يتحكم فيهم، وكل خمسة كيلومترات مربعة يوجد فيها حاجز أو بوابة.

ومن خلال تكثيف الاستيطان، وزيادة أعداد المستوطنين الذين تجاوزوا 730 ألفا، بزيادة 8% عن العام الفائت 2024، ومن خلال محاولة عزل الضفة عن بعضها البعض جغرافيا عبر مشاريع مثل E1 الذي يقسم الضفة إلى جزئين منفصلين تماما، ويعزل شرق القدس عن باقي الضفة، وقد قوبل هذا المشروع برفض غربي عبرت عنه كل من بريطانيا وهولندا، واصفة إياه بالانتهاك الصارخ للقانون الدولي.

كما كان من أهم مظاهر تطبيق رؤية حسم الصراع إعادة هندسة المخيمات الفلسطينية شمال الضفة في جنين وطولكرم، وتشريد سكانها، وتجريف جزء كبير من منازل المخيم، لمنع أي محاولة لإعادة تأسيس بنية تحتية مقاومة في تلك المخيمات، وهو ما يمثل خطوة صغيرة في مشروع الحسم الكبير.

ومن الواضح أن حكومة الاحتلال تصر على الاستمرار في هذا المشروع رغم تكلفته الباهظة ديبلوماسيا وميدانيا، حيث ترفض العديد من الدول الغربية المتحالفة من الكيان، رؤية حكومة نتنياهو لحسم الصراع، وتتجه غالبيتها للاعتراف قريبا بالدولة الفلسطينية في محاولة لعرقلة السلوك الصهيوني.

وهو ما يُقابل برفض إسرائيلي علني، حيث قال وزير المالية سموتريتش قبل أيام: إن ضم الضفة هو الوسيلة التي تمنع قيام الدولة الفلسطينية في المستقبل، وخاطب قادة فرنسا وبريطانيا والنرويج وأستراليا وكندا، قائلا: نقول لكم لن تقوم دولة فلسطينية.

أما نتنياهو فكان أكثر عدوانية في خطابه لبريطانيا قائلا بعد إعلانها نيتها الاعتراف بدولة فلسطينية: “دولة جهادية على حدود إسرائيل اليوم؛ ستهدد بريطانيا غدا”، بينما قال ردا على نية فرنسا الاعتراف بالدولة الفلسطينية: إن فرنسا تكافئ الإرهاب، وإن هذه الدولة لن تكون إلا منصة لإبادة إسرائيل، معلنا أن الفلسطينيين لا يريدون دولة إلى جانب إسرائيل؛ بل يريدون دولة بدلا من إسرائيل.

وهو ما يشي بشكل واضح بنية حكومة نتنياهو في القضاء على أي إمكانية بإقامة دولة فلسطينية، والسعي لإلغاء الكيانية السياسية الفلسطينية تماما، وصولا لحسم كامل للصراع.

وهو ما يفرض على الفلسطينيين إعادة النظر في مسيرتهم السياسية السابقة، والانتباه إلى أن تحولات كبرى تجري في مركز صنع القرار الصهيوني، وأن إسرائيل التي عرفناها على مدار سبعة عقود من الصراع ليست هي إسرائيل اليوم، والتي يقرر فيها نتنياهو وسموتريتش وبن غفير.

هذا يعني أن تفجير العمل المقاوم في كل مكان يتواجد فيه الفلسطينيون داخل فلسطين، وعلى حدودها، هو المسار الوحيد الذي يجبر الاحتلال على تغيير موقفه، لأن العجز الفلسطيني الحالي يجعل أي خيار صهيوني دون تكلفة، فلماذا يعارضه أحد داخل الكيان.

بينما زيادة الأعباء الأمنية على الجيش، واستنفار قوات الاحتياط، واستنزاف الموارد العسكرية والأمنية للكيان في كل بقعة داخل فلسطين، وتحويل كل حاجز أو بوابة، أو بؤرة استيطانية أو مستوطن إلى هدف محتمل للمقاومة، كل ما سبق سيدفع الاحتلال للوصول إما إلى حالة إرهاق كبير يعقبه انهيار وتفكك في المنظومة العسكرية والأمنية، وإما إلى حالة تراجع على اعتبار أن مشروع الحسم غير واقعي وغير ممكن على الأقل حاليا.

ولا ينبغي لأحد أن يتصور أنه سيكون بمأمن من الاستهداف الصهيوني، فالاحتلال لا يعادي الفلسطيني الذي يقاوم فقط، بل يعادي الكل الفلسطيني، المقاوم وغير المقاوم، وموقف الاحتلال من السلطة خلال الأشهر الفائتة، والذي كان في منتهى العدوانية رغم ما تقدمه له من خدمات أمنية، يوضح ذلك بمنتهى الجلاء، وعلى الجميع أن يتذكر أن الحاضنة الجماهيرية الصهيونية لأحزاب الاحتلال الحاكمة اليوم لا تهتف في مسيراتها بشعار: الموت للمقاومين، بل: “الموت للعرب”، العرب جميعا، والفلسطينيين جميعا.

47
اترك التعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المشاركات الأخيرة: