أثر ضغط الدول الأوربية على إسرائيل.. وعلى المفاوضات والصفقة

مقال: أسامة حرارة

في الأشهر الأخيرة أزداد الضغط الدولي واعتراف بعض الدول الأوربية والغربية بفلسطين وعقوبات من دول أوروبية ومظاهر عداء لإسرائيل وسياساتها في العالم…وهذا تتوج بمقاطعة خطاب نتانياهو في الأمم المتحدة

لطالما مثّلت أوروبا، في تاريخ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، مزيجًا معقدًا من الدعم الأخلاقي والغطاء الدبلوماسي لإسرائيل، ينبع من خلفية تاريخية عميقة. لكن التحولات الأخيرة في المشهد الجيوسياسي، والتي أفرزتها موجات العنف المتصاعدة والسياسات العسكرية التي تجاوزت حدود المقبول، قد دفعت بالعديد من الدول الأوروبية إلى مراجعة مواقفها بشكل علني وغير مسبوق. لم يعد الموقف الأوروبي يقتصر على الإدانة اللفظية؛ بل تحول إلى ضغط سياسي ودبلوماسي متزايد يهدد بتآكل الغطاء الاستراتيجي الذي لطالما اعتمدت عليه تل أبيب.

إن هذا التحول الأوروبي المتسارع هو مؤشر أن إسرائيل فقدت الدعم المطلق الذي كانت تتمتع به سابقًا.”

وأن سياساتها العدوانية المفرطة قد أثارت حفيظة أقرب حلفائها التقليديين. يكمن التأثير الحقيقي لهذا الضغط ليس في قوته العسكرية المباشرة—فالولايات المتحدة تظل اللاعب الأكبر—بل في قدرته على تقويض الشرعية الدولية والغطاء الدبلوماسي الذي تعتمد عليه تل أبيب في المحافل العالمية، مما يجعله عاملًا حاسمًا في مسار المفاوضات المستقبلية وفرص إنجاز أي صفقة.

من المهم التفريق بين الضغط الأوروبي والضغط الأمريكي. فبينما تمتلك واشنطن ورقة المساعدات العسكرية وحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، مما يجعل تأثيرها مباشرًا وفوريًا، يمثل الضغط الأوروبي “قوة ناعمة” و**”دبلوماسية أخلاقية”** تلعب دور مكبّر الصوت للغضب الدولي. تتخذ هذه القوة الناعمة أشكالاً مختلفة تعزز من عزلة إسرائيل المتنامية:

تعتمد إسرائيل على علاقاتها الاستراتيجية مع أوروبا بوصفها جزءًا من “الغرب الديمقراطي”. عندما تبدأ دول محورية مثل إيرلندا وإسبانيا وبلجيكا والنرويج والسويد في الاعتراف بالدولة الفلسطينية أو في إصدار بيانات إدانة قاسية، ومراجعة اتفاقيات التجارة (كـ “اتفاقية الشراكة” الأوروبية-الإسرائيلية)، فإن ذلك يخلق إحساسًا متزايدًا بالعزلة وتآكل الشرعية الدولية. هذا التآكل هو الخطر الأكبر الذي تخشاه إسرائيل على المدى الطويل، خاصة مع تزايد الدعوات في العواصم الأوروبية للمساءلة القانونية أمام محكمة العدل الدولية والجنائية الدولية.

لقد تجلت أدوات هذا الضغط الدبلوماسي الرمزي والجوهري في الأشهر الأخيرة بشكل واضح عبر سلسلة من الإجراءات، شملت سحب السفراء للتشاور من قبل بعض الدول، والدعوات الموحدة لوقف فوري لإطلاق النار متجاوزةً بذلك التكتيك الأمريكي الذي غالبًا ما يركز على “هدنة إنسانية”، إضافة إلى المقاطعة الرمزية لخطاب نتنياهو في الأمم المتحدة من قبل بعض البعثات، وهو ما يشكل مؤشراً جلياً على تزايد السخط الدبلوماسي الرسمي.

رغم أن أوروبا لم تستخدم بعد كامل قوتها الاقتصادية كعقوبات مباشرة شاملة، فإن الرافعة التجارية تبقى ورقة ضغط كامنة ومهمة. تظهر العلاقات التجارية مع دول مثل بريطانيا الأهمية الاستراتيجية لأوروبا بالنسبة للاقتصاد الإسرائيلي.

تُظهر الأرقام الاقتصادية هذا الترابط الحيوي: فقد بلغت صادرات إسرائيل إلى بريطانيا (باستثناء الماس) نحو 1.28 مليار دولار في عام 2024، بانخفاض عن 1.8 مليار دولار في عام 2023. تشكل الكيميائيات والأدوية نحو ثلث هذه الصادرات، وهي قطاعات حيوية للاقتصاد الإسرائيلي. في المقابل، تستورد إسرائيل من بريطانيا ما قيمته نحو 2.5 مليار دولار، مما يعني أن المملكة المتحدة تحقق فائضًا تجاريًا يبلغ 1.3 مليار دولار لصالحها.

إن مجرد التهديد بتعليق التسهيلات التجارية أو فرض عقوبات على قطاعات محددة يمثل ضغطًا رمزيًا وجادًا قد يؤثر على قطاعات صناعية إسرائيلية حساسة، ويزيد من الكلفة الاقتصادية لاستمرار الصراع. هذا الضغط الاقتصادي المحتمل يضاف إلى الضغط السياسي ليعزز من عزلة تل أبيب

أدى التصعيد الإسرائيلي المتزايد، الذي وصفه البعض بأنه “عدواني تجاوز الحدود بشكل كبير”، إلى ضرب عصفورين بحجر واحد: إحراج الحلفاء وزيادة حدة المعارضة الداخلية.

من الأمثلة الصارخة على تجاوز إسرائيل للحدود ما يتعلق بالاستهدافات التي طالت الدول الوسيطة في المفاوضات، مثل الضربة التي قيل إنها وقعت في الدوحة، والتي مثّلت صدمة دبلوماسية، ثم جاءت حادثة قصف دولة وسيطة أخرى لتُظهر مدى تهور السياسات الإسرائيلية. هذه الأفعال لا تضر فقط بجهود الوساطة الهشة الهادفة لـ صفقة تبادل الأسرى، بل تزيد من حالة التوتر والغضب الأوروبي، وتُجبر العواصم الغربية على النظر بجدية أكبر في سياسات الردع الدبلوماسي. هذا النوع من التصعيد يمثّل بالنسبة للكثيرين نقطة اللاعودة، وقد يُنظر إليه على أنه المقدمة لنهاية الحرب عبر الضغط الدولي، لأنه يترك إسرائيل معزولة وغير موثوق بها حتى من قبل شركائها غير المباشرين.

في الداخل الإسرائيلي، تتصاعد الأصوات المطالبة بـ مراجعة شاملة للمسار العسكري والسياسي في غزة. الضغط الأوروبي يرفع الكلفة السياسية لأي عملية عسكرية واسعة أو مطولة. عندما يخرج مسؤولون أوروبيون بارزون للتشكيك في التزام إسرائيل بالقانون الدولي، فإن ذلك يعزز أصوات المعارضة الداخلية، وخصوصاً عائلات الرهائن، التي تطالب بالمرونة في المفاوضات والتركيز على الرهائن بدلاً من الأهداف العسكرية المطلقة لحكومة نتنياهو المتشددة. إن تراجع الدعم الدولي وتآكل فاعلية العمليات العسكرية يشكل معضلة داخلية ضخمة تضع الحكومة الإسرائيلية تحت ضغط مزدوج غير مسبوق.

تؤثر الديناميكيات الأوروبية بشكل غير مباشر ولكن جوهري على بيئة المفاوضات الهشة المتعلقة بالرهائن ووقف إطلاق النار. إن تعثر مفاوضات تبادل الأسرى نتيجة تشدد موقف حكومة نتنياهو يضاعف من ضرورة الضغط الأوروبي الفعال.

تغيير المناخ التفاوضي: عندما تتوحد الأصوات الأوروبية مع الأصوات العربية والأممية مطالبة بوقف إطلاق النار “لأسباب إنسانية”، فإن هذا يخلق ضغطًا هائلاً على الوسطاء (مثل قطر ومصر) ويقوي موقف الطرف الفلسطيني. تصبح المفاوضات تدور ليس فقط حول متطلبات إسرائيل الأمنية، بل حول “ضرورات دولية” تمليها الأزمة الإنسانية التي حركت أوروبا.

ضمان الأفق السياسي: الضغط الأوروبي المستمر والمشدد يُبقي على “حل الدولتين” كـ “الخيار الوحيد المتاح” على الطاولة، حتى عندما ترفضه الحكومة الإسرائيلية علنًا. هذا الضغط يجبر المفاوضات على تضمين بند حول الأفق السياسي المستقبلي (ما بعد الصفقة). أدركت إسرائيل أن أي “حل” مستدام في غزة يتطلب مشاركة دولية في إعادة الإعمار، والإشراف الأمني. وهنا تظهر أهمية أوروبا، باعتبارها ممولاً رئيسيًا لإعادة الإعمار، حيث يمكنها ربط تمويلها بقبول إسرائيل لخارطة طريق سياسية واضحة وموثوقة تؤدي إلى حل الدولتين.

يلعب الضغط الدولي، وخصوصاً الأوروبي، دوراً محورياً في إعادة تشكيل مسار المفاوضات المتعثرة للتوصل إلى صفقة تبادل وهدنة. فمع تزايد عزلة إسرائيل الدبلوماسية وتآكل شرعيتها الدولية، لم تعد حكومتها قادرة على تجاهل الأصوات الأوروبية الموحدة التي تطالب بوقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية. هذا الضغط يخلق بيئة تفاوضية جديدة تدفع الوسطاء إلى تبني مواقف أكثر حزماً، وتجبر الطرف الإسرائيلي على إبداء مرونة أكبر خوفاً من تحول الإدانات السياسية إلى إجراءات اقتصادية وعقوبات مؤثرة. وبذلك، يصبح الضغط الخارجي عاملاً حاسماً يرفع من تكلفة استمرار الحرب ويزيد من فرص إنجاز صفقة تلبي الحد الأدنى من المطالب الإنسانية والسياسية.

الخلاصة: من الإدانة إلى الفعل الموحد

ختامًا، لا يمكن التقليل من أثر ضغط الدول الأوروبية، حتى مع انقسامها الداخلي. إنه يعمل كـ “مكبّر صوت” للغضب الدولي، ويحول دون حصول إسرائيل على “شيك على بياض” لعملياتها. الأثر المباشر لهذا الضغط هو تضخيم الكلفة السياسية وتسريع وتيرة المفاوضات، مع إجبار إسرائيل على تقديم تنازلات إنسانية والدخول في حوار حول “اليوم التالي”.

لكن لكي ينتقل هذا الأثر من كونه عامل إزعاج إلى عامل تغيير حاسم، يجب على أوروبا أن تتجاوز حالة الانقسام. الضغط الأوروبي الفعّال يحتاج إلى التحول من بيانات الإدانة إلى إجراءات موحدة تلوّح بجدية بأدوات اقتصادية ودبلوماسية حقيقية، وربطها بشكل مباشر بضرورة تحقيق إنجاز تفاوضي مستدام، سواء كان صفقة كبرى للتبادل أم خطوة حاسمة نحو الأفق السياسي المنشود.

إن مستقبل الصفقة ومستقبل المنطقة يظلان رهينين ليس فقط بالوسطاء التقليديين، بل بمدى استعداد أوروبا لتحويل قلقها الأخلاقي إلى فعل سياسي موحد ومؤثر يوقف العدوان ويعيد فتح مسار السلام السياسي. هل تملك أوروبا الإرادة السياسية لاستخدام قوتها الناعمة بالكامل قبل فوات الأوان؟

 

28
اترك التعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المشاركات الأخيرة: