حرب على غزة.. لم ينجُ أحد دون خسارة

عامان من الإبادة في غزة، لن تجد في نهايتهما شخصًا في القطاع نجا دون خسارة: فقدان عزيز، أو جزء من جسده، أو على الأقل منزل أو ممتلكات أخرى. ففي كل زاوية من القطاع أثرٌ لجريح أو شهيد أو مفقود أو معتقل، وتشير التقديرات الرسمية إلى أن نسبة الدمار تناهز 90%، وقد طالت كل مفاصل الحياة.

ثنائية المرض والفقد

فقدت ليلى الهمص (42 عامًا) أحد أشقائها شهيدًا، واعتُقل شقيق آخر، ودمّرت الحرب جميع منازل عائلتها في مدينة رفح جنوب القطاع. تتساءل: “ومن لم يكتوِ بنيران هذه الحرب المجنونة؟”.

لن تجد في قطاع غزة شخصًا نجا دون خسارة: فقدان عزيز، أو جزء من جسده، أو على الأقل منزل أو ممتلكات أخرى، إذ إن نسبة الدمار تناهز 90%، وقد طالت كل مفاصل الحياة

اضطرّت الهمص للسفر إلى مصر قبيل الاجتياح الإسرائيلي لمدينة رفح في 6 أيار/ مايو من العام الماضي، بغية العلاج من سرطان الثدي، وقد فرّق المرض والحرب بينها وبين زوجها ونجلها البكر في غزة، وتشتّتت عائلتها الكبيرة في الخيام بعد التدمير الشامل لمنازلها في رفح.

في الأسبوع الأول بعد إطلاق إسرائيل حرب الإبادة على قطاع غزة، نزحت الهمص مع أسرتها (7 أفراد) من شقتها السكنية في حيّ النصر شمال مدينة غزة إلى رفح، وقبيل اجتياح المدينة سافرت رفقة أربعة من أبنائها وبناتها إلى مصر للعلاج، وبقيت طوال هذه الشهور تتجرّع الألم والقلق على زوجها ونجلها البكر وبقية أفراد عائلتها الكبيرة: أمّها وأشقائها وشقيقاتها وأبنائهم.

تتوق الهمص إلى إعادة فتح معبر رفح البري للعودة إلى القطاع، لكنها لن تجده كما تركته؛ فقد رحل كثير من أحبّتها، وتحولت منازل عائلتها إلى أثر بعد عين، واختلطت ذكريات السنين مع أطلال الركام والحجارة المتناثرة.

وتتحدث الهمص بألم يعتصر قلبها عن شقيقها عمّار، الذي استُشهد صيف العام الحالي وأُصيب عدد من أطفاله، جراء غارة جوية إسرائيلية استهدفت خيام النازحين في منطقة المواصي غرب مدينة خان يونس جنوب القطاع.

وقبل أن تفيق من صدمة فقدان عمّار، تلقت الهمص صدمة أخرى حين اختطفت قوة خاصة تابعة للاحتلال شقيقها الطبيب مروان الهمص، مدير عام المستشفيات الميدانية في وزارة الصحة. ولاحقًا، في عملية مشابهة، اختُطفت ابنته الممرضة تسنيم (23 عامًا) بينما كانت في طريقها إلى عملها في نقطة طبية بمنطقة المواصي غرب خان يونس.

وتشعر ليلى بقلق شديد تجاه مصير مروان وابنته تسنيم، وتقول إنهما، وغيرهما من الأطباء والممرضين والطواقم الطبية المعتقلين في سجون الاحتلال، كانوا يستحقون أن يكونوا على رأس قائمة المحرّرين، مقابل الجهود الكبيرة التي بذلوها خلال الحرب.

وتضيف: “توفّيت أمي في خيمة متهالكة، وكانت قد قضت آخر سنتين من عمرها في شقاء ومعاناة، إذ اضطرت للنزوح من منزلها في مخيم يبنا جنوب رفح، وهو المخيم الذي دمّره الاحتلال بالكامل”.

وتابعت: “توفّيت أمي بعدما تملّكها الحزن إثر استشهاد عمّار وكثير من أبناء العائلة، واختطاف مروان وابنته تسنيم، وإصابة عشرات آخرين، ولم يعد لها مأوى بعد تدمير منزلها ومنازل أبنائها وبناتها في رفح”.

جثامين تحت الركام

أما عبد الرحيم خضر فما زال الألم يعتصره على العشرات من عائلته الذين استُشهدوا في مجزرة دموية وما تزال جثامينهم عالقة تحت الأنقاض. يقول: “فقدت في المجزرة أمي وأبي وأشقائي وجميع أعمامي وأبناء عمومتي”. ومنذ تلك المجزرة التي وقعت قبل شهور، يعيش خضر على أمل انتشال جثامين شهداء عائلته وإكرامهم بالدفن.

ويضيف خضر: “منذ شهور وأنا أعيش على أمل أن أحتضن عائلتي، حتى لو كانوا جثامين باردة لا تزال محتجزة تحت الأنقاض، ولكنهم ما زالوا عالقين، لم تصلهم يد الإنقاذ”.

وتقف فرق الإنقاذ والدفاع المدني عاجزة عن الوصول إلى نحو 9500 شهيد مفقود، غالبيتهم عالقون تحت ركام المنازل والمباني المدمّرة، بسبب عدم توفّر الآليات الثقيلة من جرافات ورافعات وأدوات لازمة للتعامل مع ملايين الأطنان من الركام والحطام.

“وكيف لي أن أفرح بالنجاة من الحرب المجنونة وعائلتي محرومة حتى من قبور تحتضن جثامينها”؟ يتساءل خضر، مطالبًا المؤسسات الدولية والإنسانية والعالم الحرّ بالتحرك الفوري “لإنقاذ ما تبقّى من كرامة الموتى والشهداء في غزة”.

زوج خلف القضبان

كانت مها وافي (44 عامًا) تمنّي النفس بأن يكون زوجها أنيس الدنيا الأسطل، مدير الإسعاف والطوارئ في جنوب قطاع غزة، ضمن قائمة الأسرى المحرّرين من سجون الاحتلال في إطار اتفاق إنهاء الحرب، لكنها وأطفالها الخمسة أصيبوا بخيبة أمل.

تعمل وافي أيضًا ضابط إسعاف في جمعية الهلال الأحمر في خان يونس، وعانت الويلات منذ اعتقال زوجها مطلع كانون الأول/ ديسمبر 2023، إذ وجدت نفسها مسؤولة وحدها عن رعاية أبنائها الأربعة وبنتها الوحيدة، من دون أن تنقطع عن أداء عملها الإنساني.

تقول وافي إن اعتقال زوجها كان أشدّ المصائب التي تعرّضت لها خلال الحرب، وإن فقدانه يفوق أثر تدمير منزلهم ومعاناة الخوف والتجويع.

واعتقل جيش الاحتلال أنيس الأسطل عند محور نتساريم العسكري بينما كان في سيارة إسعاف على رأس قافلة إنسانية متجهة إلى مستشفى كمال عدوان في شمال القطاع لإجلاء جرحى ومرضى بموجب تنسيق مسبق مع منظمة الصحة العالمية.

وتشعر وافي بقلق شديد على زوجها، وقد تضاعف خوفها بعدما صُدمت بعدم ورود اسمه ضمن قائمة المحرّرين المفرج عنهم من سجون الاحتلال، إذ تقول إن “ما تسمعه من المحرّرين عن أوضاع الأسرى في السجون وأساليب التعذيب يزيدها قلقًا على مصير زوجها”.

وبحسب توثيق المكتب الإعلامي الحكومي، فقد استُشهد نحو 1700 من الكوادر الطبية خلال الحرب، وأُصيب مئات آخرون، إضافة إلى اعتقال قوات الاحتلال أكثر من 310 أطباء ومسعفين وممرضين وعاملين في الطواقم الطبية والصحية.

أحلام مبتورة

خلّفت الحرب أثرها على جسد الطفل عبيدة عطوان (15 عامًا)، الذي تسبّب صاروخ إسرائيلي في بتر قدمه وذراعه عندما كان داخل خيمة ينزح بها مع أسرته في دير البلح وسط القطاع، بعد تدمير الاحتلال منزلهم خلال العام الأول من الحرب.

أجرى الأطباء لعبيدة عدّة عمليات جراحية، ويقول إنه لا يزال بحاجة إلى عمليات دقيقة لا تتوفر الإمكانيات لإجرائها في مستشفيات القطاع، ويتمنى أن تتاح له فرصة السفر للعلاج واستعادة حياته.

يهوى عبيدة كرة القدم، وقبل اندلاع الحرب كان لاعبًا في أكاديمية رياضية للناشئين، ورغم فقدانه قدمه وذراعه، فإنه يحمل أملاً كبيرًا في قلبه الصغير، ويصرّ على العلاج وتركيب أطراف صناعية والعودة إلى ممارسة لعبته المفضلة.

وتشير تقديرات رسمية إلى أن الحرب تسبّبت في 4000 حالة بتر، من بينها عدد كبير من الأطفال والنساء، لا تتوفّر لهم الإمكانيات للعلاج في مستشفيات غزة التي تفتقر إلى الأدوات المساعدة، إذ تمنع قوات الاحتلال إدخالها حتى الآن.

17
اترك التعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المشاركات الأخيرة: