احتمالات العودة للحرب في قطاع غزة.. المحددات والسيناريوهات

مقال: أ. سليمان أبو ستة

أدركت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في المنطقة والغرب أن الطريق الذي سلكه نتنياهو في حربه الإجرامية على قطاع غزة لن تأتي بنتيجة تتوافق مع مصالح إسرائيل ومصالحهم.

وذلك بسبب تناقض أهداف الطرفين، فبينما تريد المنظومة الغربية وحلفاؤها في المنطقة؛ القضاء على المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حماس، كنموذج يمكن أن يُحتذى ويثبت قدرة الشعوب على الإنجاز والصمود والتحدي، فشل نتنياهو وحكومته وجيشه في تحقيق تلك المهمة، وذهبوا بدلا منها لهدف آخر يتمثل في القضاء على الشعب الفلسطيني من خلال إبادة لا تفرق بين صغير وكبير.

وهو ما سيحول الأزمة الفلسطينية من أزمة تعاني منها إسرائيل فقط؛ إلى أزمة إقليمية ودولية من خلال مشروع التهجير الذي قد يسبب هزات أمنية إقليمية في حال انتشار عشرات آلاف الفلسطينيين الغاضبين في دول الطوق، كما سيسبب أزمة إنسانية كبيرة من خلال دفع مليوني إنسان للهجرة سينتهي المطاف بغالبيتهم في أوروبا.

كما أن استمرار التجويع والإبادة جعل من إسرائيل عبئا أخلاقيا على حلفائها الذين انتقدوها بشكل لاذع، وصل إلى حد إعلان كندا أنها ستعتقل نتنياهو إذا وصل إليها.

كما هددت المشاهد غير المسبوقة للقتل والإجرام إلى حالة غضب عربي واسع لم يترجم إلى مظاهرات ميدانية لكنه بدون شك سيتحول في لحظة ما إلى انفجار كبير يهدد استقرار أنظمة المنطقة التي باتت -نتيجة ذلك- أكثر جرأة في نقد الاحتلال، ويمكن اعتبار مصر نموذج واضح على الغضب الإقليمي من سلوك الاحتلال.

لكن الأخطر من وجهة نظر المنظومة الغربية والإقليمية إن إسرائيل دخلت حالة من الانفلات الذي بات يهدد بحرب إقليمية واسعة، فبعد العدوان على سوريا وإيران ولبنان، هاجمت إسرائيل الدوحة بشكل لم يكن لأحد أن يتخيله، فلقد كان الهجوم استعراضيا بشكل كبير، وكأن إسرائيل لا تراعي مصالح حليف ولا شريك ولا مفاوض، وهو في ظني أدخل كل أنظمة المنطقة في حالة من الرعب من السلوك الإسرائيلي الذي بات عدوانيا بشكل كبير، وهو ما ساهم في الضغط وصولا لوقف الحرب.

خلاصة ما سبق أن نتنياهو لم يذهب لوقف الحرب بإرادته الحرة، وإنما تحت ضغط كبير من ترمب، وقد كان يأمل أن ترفض حماس الورقة الأمريكية ليستمر في القتل كما يريد.

لكن حماس وافقت، وانتهى الأمر بالإعلان عن الاتفاق الذي تدل تجارب كثيرة على أن الاحتلال لا ينوي الالتزام به، ويمكن أن يخلق ذرائع متعددة لانتهاكه.

وهو ما يجعلنا أمام سيناريوهات واسعة تبدأ بالعودة الكاملة إلى الحرب بشكلها السابق، وإن كان هذا أقل السيناريوهات احتمالا، وانتهاء باستمرار الحرب في صورة إغلاق وتضييق ومنع للإعمار في محاولة إسرائيلية وربما أمريكية للقضاء على حماس وتحييدها من المشهد، مرورا بما يمكن أن نطلق عليه السيناريو اللبناني، وهو الاستمرار في عمليات اغتيال يومية، ولكن بوتيرة قتل محتملة دوليا وإقليميا، دون أن يصل الأمر إلى حالة تصعيد واسعة، كما يمكن الجمع بين السيناريو الثاني والثالث في بعض المحطات.

والحقيقة أن ما يحدد وجهة قطاع غزة القادمة أمران اثنان، هما:

أولا: مدى جدية إدارة ترمب في وقف الحرب في قطاع غزة، وهل تريد الوصول بالمنطقة إلى حالة من التسوية الشاملة، أم تريد تهدئة جبهة غزة لمواجهة في لبنان أو إيران.

ومشكلة الموقف الأمريكي أنه متناقض وغير واضح، نظرا لتصريحات ترمب التي تكون مرة في أقصى اليمين ومرة في أقصى اليسار، فبينما أراد سابقا تهجير الفلسطينيين من غزة، وتحويلها إلى استثمار عقاري تحت إشراف الولايات المتحدة، تحدث أخيرا عن رفضه التهجير ورغبته في تحسين حالة الغزيين.

وبينما تحدث مرة عن أن حماس تواجه العصابات الشريرة في غزة وأنه سمح بذلك، هدد في اليوم التالي بالقضاء على حماس إذا هاجمت المدنيين على حد وصفه، وبينما يقول مرة إن حماس تريد الوصول لاتفاق، يعلن بعد قليل أنها منظمة سيئة، ويمكن القضاء عليها سريعا إذا لم تلتزم بالاتفاق.

وبالتالي لا يمكن قراءة الموقف الأمريكي بدقة، وإن كنا نرجح أن الولايات المتحدة أعطت نتنياهو مهلة للقضاء على حماس، وأنه فشل في تلك المهمة، وبالتالي قررت التدخل بنفسها ووقف الحرب، وأنها ترى في ذلك وسيلة لحماية إسرائيل من نفسها، وأنها ستلزمها فعلا بعدم العودة للحرب بشكلها السابق، وإن سمحت بها بأشكال أخرى، حسب طبيعة الهدف الحقيقي الذي تسعى له إدارة ترمب في المنطقة، والذي ما زال مجهولا.

ويمكن فهم الإصرار الأمريكي من خلال تصريحات نائب الرئيس الأمريكي الذي قال إن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة سيصمد، وإن لكل دولة دور ستضلع به لتنفيذ وقف إطلاق النار في غزة، ولن نفرض شيئا على أي حليف.

ثانيا: ما سيحدد مستقبل الصراع في غزة هو الوضع السياسي في إسرائيل، وأهم الأسئلة المهمة في هذا السياق: ما هو مستقبل نتنياهو، وما هو مستقبل حلفاؤه، وهل سيذهب لانتخابات، وهل ستعود الصراعات البينية التي سادت قبيل السابع من أكتوبر في إسرائيل، وإذا حدثت الانتخابات من سيحسمها، وهل ستحسم، أم سيفشل الطرفان في تشكيل حكومة، ويبقى نتنياهو في المشهد من خلال حكومة تسيير أعمال.

كل هذه الأسئلة ستحدد مسار نتنياهو وائتلافه، وهو العامل المهم في تحديد المستقبل القريب لغزة، كما رأت ذلك على سبيل المثال صحيفة نيويورك تايمز التي أكدت وجود قلق في إدارة ترمب من عودة نتنياهو للحرب، وأن الاستراتيجية الأمريكية الحالية تهدف لمنعه من ذلك.

وبغض النظر عن إمكانية عودة الحرب بالشكل السابق؛ تظل هنالك أسئلة مهمة عالقة، وهي هل سيعود الحصار كما كان في السابق أو بوتيرة أشد، وهو ما يعني استمرار معاناة المواطنين في غزة، سواءً من البطالة، أو من فقدانهم لبيوتهم، وللبنية التحتية، ولكثير من تفاصيل الحياة التي لا غنى عنها، وفي حال استمرار الحصار هل سيقبل الشعب الفلسطيني بذلك، أم ينفجر مجددا بشكل سلمي كما في مسيرات العودة، أو عنيف كما في حادثة رفح قبل أيام قليلة؟

ومن الأسئلة المهمة أيضا هل سينسحب الاحتلال من مختلف مناطق قطاع غزة، أم يستمر في السيطرة على نصف القطاع، وهو ما يعني بقاؤه في حالة استنفار، وإمكانية تنفيذ عمليات عسكرية ضد قواته بين فترة وأخرى، ما سيعني استمرار الهجمات الإسرائيلية القاتلة ضد الشعب الفلسطيني ومقاوميه.

ومن المحتمل أن يحدث انسحاب من غالبية مناطق القطاع على أن يظل الاحتلال في أجزاء محدودة شرقا وشمالا، وجنوبا على الحدود مع مصر، وهذا الخيار وإن كان سيقلل من احتمالية انفجار الأوضاع مجددا إلا أن المقاومة لن تقبل به، وقد تهاجمه وإن كان بعد وقت طويل نسبيا.

ثم ما شكل السيطرة الأمريكية على منظومة الحكم المرتقبة في قطاع غزة، وما حجم التدخل الأوروبي فيها، وهل سيسمح لحماس كجزء من الفصائل بالتواجد في المشهد الحكومي، وما مصير الأجهزة الأمنية الحالية في قطاع غزة، والتي يجزم الكل أن غزة لن تستقر أمنيا بدونها، وهل ستبقى منظومة الوزارات الحكومية كما هي وإن تغير رأسها، أم ستحاول منظومة التدخل الغربي والإقليمي تحييدها بشكل كامل.

والحقيقة أن التدخل الغربي الفج فشل سابقا في غزة كما رأينا في شركة توزيع المساعدات الأمريكية، وسيفشل لاحقا، ولذا أتصور أن السيناريو الأمثل من وجهة نظر الإقليم والغرب هو بقاء المؤسسات الحالية كالبلديات والوزارات، ولكن برؤوس جديدة يتم اختيارها من قبلهم، بحيث يغلب على ظنهم أنها ليست قريبة من المقاومة.

لكن الخلاصة أن المشهد الميداني على الأرض لن يتغير كثيرا، ستبقى حماس في المشهد، بشكل أو بآخر، ولن ينجح أحد في انتزاع سلاحها، وإن كانت ستظل عرضة لهجمات إسرائيلية متكررة، لكنها في تقديري قادرة على التكيف معها، أما حديث ترمب عن القوى الإقليمية الحليفة التي وعدته بالدخول إلى غزة بالقوة وانتزاع سلاح حماس والقضاء عليها، فهو مجرد فرقعة إعلامية لنجم سينمائي قبل أن يكون قائدا سياسيا، فمن ذا الذي سيدخل حربا طاحنة لصالح عيون إسرائيل التي باتت منبوذة وفاشلة.

18
اترك التعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المشاركات الأخيرة: