مقال: أ. سليمان أبو ستة
تقترب حرب الإبادة على قطاع غزة من إكمال عامها الثاني، ورغم تواتر التوقعات بقرب انتهائها في أكثر من محطة، إلا أن كل التوقعات المذكورة فشلت واستمرت الحرب.
وعند البحث في أسباب تلك التوقعات، نجد أن هذه الحرب تتناقض تماما مع المنطق السليم، ومع نظرية الاحتلال الأمنية التي حكمت حروبه على مدار سبعة عقود من وجوده على هذه الأرض، والتي كانت تحرص دائما على الحروب الخاطفة، وبأقل خسائر بشرية، مع التركيز على الضربات الاستخباراتية والجوية.
فلماذا إذاً تواصلت الحرب طوال هذه الفترة الطويلة؟
هناك ثلاثة أسباب رئيسية أدت إلى استمرار هذه الحرب، وهي:
- أولا: الوضع الإسرائيلي الداخلي، ومصالح نتنياهو الشخصية، وسيطرة رؤية اليمين الراغبة في حسم الصراع، وضعف المعارضة ومنظومة “الدولة” العميقة في كيان الاحتلال.
- ثانيا: عجز الاحتلال عن كسر إرادة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وانعدام البدائل المحلية الموافقة على التعاون مع الاحتلال ضد حماس.
- ثالثا: ضعف المنظومة العربية الرسمية الحاكمة، وشلل الإرادة الجماهيرية العربية، وانعدام الرغبة الدولية في الضغط على الاحتلال.
فإذا ما بحثنا في هذه تفاصيل ما سبق، سنجد أن حرب الإبادة كانت ستنتهي منذ وقت طويل لو كان في سدة الحكم في كيان الاحتلال رئيسا للحكومة مستعدا لتحمل المسؤولية السياسية عما جرى في السابع من أكتوبر، ليخرج لجمهوره معلنا استقالته، وخروجه من الحياة السياسية نتيجة لما جرى، وقد رأينا شيئا من ذلك في كثير من الحروب السابقة في الكيان، فلقد اختفى مثلا من الحياة السياسية كلا من باراك وأولمرت وتسيبي ليفني عقب حرب 2008.
ولكن رغبة نتنياهو في التمسك بالحكم، وقدرته على التلاعب بخصومه السياسيين، والجمهور المعارض، والتحكم في قادة المؤسسات العميقة في الكيان، كل ذلك قيّد قدرة المنظومة السياسية والأمنية الإسرائيلية على السيطرة على مجريات الحرب، لتكون منضبطة بالرؤية الاستراتيجية للكيان.
فلقد أثبتت المعارضة ضعفها منذ اللحظة التي التحق فيها غانتس وفريقه بحكومة نتنياهو، دون أن يتمكنوا من حرف مسار الأمور بعيدا عن رغبات نتنياهو، وعند خروجهم بتلك الطريقة التي أضعفت موقفهم كثيرا، وحافظت على قوة نتنياهو وائتلافه.
كما أظهرت المؤسسة الأمنية والعسكرية عجزا كبيرا في مواجهة نتنياهو الذي أقال وزير الحرب غالانت، ثم أقال رئيس الأركان هرتسي هليفي، ثم أقال رئيس الشاباك رونين بار، والمستشارة القضائية للحكومة، وتجاوز حتى اللحظة موضوع تجنيد الحريديم، وعيّن دائما الشخصيات التي يريدها، دون أي اضطرابات كان من الممكن أن تجبر نتنياهو على التراجع.
حتى البعد الجماهيري كان مغيبا رغم الفشل الكبير لحكومة نتنياهو في الحرب، وارتفاع أعداد القتلى من الجنود، وقتل عدد من الأسرى الإسرائيليين على يد قوات الجيش، وبقاء عشرات الأسرى لقرابة العامين في أسر المقاومة دون النجاح في تخليصهم، ولو نظرنا في تاريخ الكيان لوجدنا أن عددا أقل من الأسرى في ظروف تشابه ظروف أسرى الاحتلال في غزة كان سيثير معارضة واحتجاجا كبيرا جدا.
كما ساهم في إطالة أمد الحرب، هيمنة رؤية اليمين على الحكومة، وهي الرؤية الساعية لحسم الصراع مع الفلسطينيين بغض النظر عن التكلفة البشرية، أو الموقف الدولي، أو تشويه صورة الاحتلال، لأنهم يرون في ذلك الحسم -ليس في غزة فحسب بل في كل الملفات بما فيها الضفة والقدس والمسجد الأقصى وفلسطينيي الداخل- إنجازا سيمحو بتحققه كل الخسائر التي ستلحق بالكيان في طريق تحقيقه.
ومن الجدير ذكره أن هذا الحسم سابق على السابع من أكتوبر، فلقد ذهب الاحتلال لاغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة بكل برود، وهو ما ينبه إلى أن اغتيال الصحفيين خلال الحرب في غزة ليس سلوكا جديدا، بل قرار رسمي مع سبق الإصرار والترصد.
كذلك كان السماح باستشهاد الأسير المصرب عن الطعام خضر عدنان، حيث يعد مؤشرا سابقا لسلوك الاحتلال الذي تكرر لاحقا في الاعتداءات البشعة على الأسرى، كما تكرر في تعمد تجويع الفلسطينيين في قطاع غزة، بالطريقة التي استنكرها العالم كله.
أما السبب الثاني الذي ساهم في إطالة أمد الحرب فهو الإخفاق العسكري الكبير للكيان الصهيوني في قطاع غزة، فرغم المجازر البشعة والتجويع الكبير وحالة القتل غير المسبوقة، إلا أن المنظومة العسكرية الصهيونية فشلت فشلا كبيرا جدا، بالنظر إلى حجم النيران، وأعداد الفرق العسكرية التي استخدمت في مواجهة المقاومة بقطاع غزة.
فلقد كان المفترض بهذه القوة أن تحسم الصراع خلال أسابيع قليلة إلا أن ذلك لم يحدث فعليا، وهذا لثلاثة أسباب، وهي: أن الاحتلال لم يسع لتحقيق هدف سياسي واقعي، وأنه في النهاية لا يملك إلا موارد بشرية محدودة تتعارض مع الهدف المنشود، وأن طبيعة حماس وأفرادها كحركة سياسية عقائدية يجعل الاستسلام خيارا غير ممكن.
فلو أعلن الاحتلال مثلا أنه يريد عقاب حماس، وتحطيم 50% مثلا من قوتها النوعية، ثم الوصول لاتفاق معها، لنجح منذ وقت كبير في تحقيق ذلك، لكنه أراد إزالتها من الوجود تماما، وهذا غير ممكن بالنظر إلى طبيعة حماس المتجذرة في كل زاوية في قطاع غزة.
كما أن الحرب أثبتت أن الإمكانات العسكرية التكنولوجية لدى الاحتلال لا تستطيع حسم الصراع دون جيش بري كبير، ولو تخيلنا مثلا أن قوة إمبراطورية كبرى أرادت السيطرة على مكان مثل غزة؛ لقامت بإنزال 400 ألف جندي مثلا لعدة سنوات، عملت خلالها على تأسيس نظام جديد، ولكان لديها القدرة على تحمل الخسارة البشرية الكبيرة في سبيل ذلك الهدف.
كذلك أدى لإطالة أمد الحرب فشل مختلف مشاريع الاحتلال البديلة عن حماس، كالتعاون مع العشائر، وإنشاء فقاعات إنسانية، والتهجير، وتوزيع المساعدات بطرق جديدة، كل ذلك لم يؤدِ إلى نشوء بديل مقبول شعبيا عن حركة حماس، التي تضررت منظومة سيطرتها بشكل كبير، ومع ذلك ظل الاحتلال عاجزا عن تجاوزها، مطالبا إياها بالاستسلام، وتسليم السلاح.
ومن الأسباب الخارجية التي أدت لإطالة أمد الحرب عدم وجود قوة إقليمية أو دولية حقيقية قادرة على فرض إراداتها على الاحتلال، فكثير من الحروب انتهت لإن الإقليم أو العالم فرض على أطرافها وقفها.
أما في هذه الحرب فلقد عجزت الأنظمة العربية عن توظيف أدواتها الكثيرة والكبيرة في وقف الحرب، أو ربما لم ترد ذلك، وهو ما يغلب على ظن كثير من المراقبين، فلم تهدد مثلا الاحتلال بقطع علاقاتها الأمنية والديبلوماسية والاقتصادية معه، ولم تهدد بإخلاء الحدود مع فلسطين المحتلة، ولم تغلق مجالاتها الجوية ومياهها الإقليمية في وجهه، بل كثفت من وتيرة مرور الصادرات إليه بمختلف أشكالها، ولم تضغط على القوى العالمية لإجبار الاحتلال على وقف الإبادة من خلال استخدام أسلحة النفط والغاز والممرات المائية الاقتصادية وحركة التجارة العابرة من خلالها.
كما بدت الجماهير العربية في أكثر حالاتها عجزا، فلم تخرج أي مسيرات حقيقية ضاغطة على الأنظمة العربية لتغير من موقفها، سوى في عدد محدود جدا من العواصم التي لا تملك الموارد السابق ذكرها مثل اليمن والأردن والمغرب، وباستثناء اليمن فإن تلك المسيرات تم قمعها أو الالتفاف حولها، وكان هذا العجز من أهم أسباب إطالة أمد الإبادة العنصرية الإسرائيلية.
أما المنظومة الدولية العالمية فلقد أبدت بعض مكوناتها انتقادا كبيرا للسلوك الإسرائيلي الدموي، وتغير خطاب بعض الدول بكل حاد تجاه الاحتلال مثل أسبانيا وإيرلندا وبلجيكا ونيوزلندا، لكن ذلك التغيير ظل في إطار الأقوال، ولم نشهد أي تحول فعلي في حصار الاحتلال، ومقاطعته وعقابه، وظلت الدول الأكثر دعما للاحتلال مثل الولايات المتحدة وبريطانيا تسانده دون حدود، لتسجل نفسها شريكا أساسيا في واحدة من أخطر الإبادات العنصرية في العصر الحديث.