المقال: أ. سليمان أبو ستة
كان الموقف الصهيوني صارما في رفضه للوجود التركي على أراضي قطاع غزة عقب اتفاق الحرب الذي قاده ترمب، ووصل الرفض إلى حد منع وفد تركي متخصص في البحث عن الجثامين المفقودة من الدخول لقطاع غزة للمساهمة في العثور على جثث القتلى الإسرائيليين، رغم أهمية ذلك بالنسبة للاحتلال.
وبالتزامن مع ذلك تصاعدت الانتقادات الإسرائيلية لتركيا ولرئيسها بشكل كبير خلال الفترات الأخيرة، فقد اتهم السفير الإسرائيلي في واشنطن أردوغان بأنه أصبح عدائيا وأنه يجب منع تركيا من الحصول على مقاتلات F35، التي يُتوقع أن ينجح أردوغان في شرائها من الولايات المتحدة بفضل علاقته الجيدة بترمب.
وفي المقابل هاجمت تركيا إسرائيل إعلاميا وقانونيا رغم العلاقات الأمنية والتجارية بينهما، فلقد أصدر القضاء التركي أوامر باعتقال 37 مسؤولا إسرائيليا بينهم رئيس الوزراء ووزير الحرب ورئيس الأركان بتهم متعلقة بارتكابهم جريمة الإبادة في قطاع غزة، وهو ما أثار غضب وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس الذي خاطب أردوغان شخصيا بقوله: خذ أوامر الاعتقال السخيفة الخاصة بك واغرب عن وجهنا، غزة لن تراها إلا بالمنظار.
فما هي الأسباب التي أدت إلى تصاعد الخلافات بين الطرفين؟
عند البحث في هذه الأسباب نجد أن علاقة تركيا بحماس واحد من أسباب الغضب الصهيوني من تركيا ورئيسها أردوغان، حيث تتهم إسرائيل حماس بإدارة أنشطة عسكرية وأمنية وسياسية انطلاقا من الأراضي التركية، وفي المقابل أدى تصاعد حدة الإبادة في غزة إلى تصعيد المواقف التركية المنتقدة للاحتلال، والداعية لوقف الحرب متهمة نتنياهو بالإصرار على قتل الأبرياء في غزة.
ومن أسباب الخلاف الرئيسية الموقف التركي من تطورات الأحداث في سوريا، حيث تحاول تركيا دعم النظام الجديد، وتعزيز نفوذها الأمني والعسكري هناك، وهو ما ترى فيه إسرائيل محاولة لتركيا لإنشاء طوق حول إسرائيل يشبه ما عملت على إنشائه إيران بدعمها للقوى المعادية للاحتلال في محيط فلسطين المحتلة، حيث تعزز تركيا قوتها في سوريا وليبيا وقبرص وتحاول التواجد بقوة في غزة.
كما أن الاحتلال يرى في النظام السوري الجديد خطرا كبيرا، ويحاول تدمير قواه العسكرية، عبر عمليات قصف جوي، وعبر دعم الأقليات مثل الأكراد والدروز، وهو ما قد ينذر بصدام بين إسرائيل وتركيا التي ترى في سوريا الجديدة مجال نفوذ لها، ومساحة مرتبطة بأمنها القومي حيث ترفض أي استقلال للأقليات في سوريا، وذلك لمنع إنشاء دولة خاصة بالأكراد.
كما أدى القصف الإسرائيلي للدوحة في محاولة لاغتيال وفد حماس المفاوض إلى تصعيد المخاوف التركية من التغول الإسرائيلي الكبير على المنطقة، وهو ما تخشى أن يمس بأراضيها، سواءً عبر محاولة إسرائيل اغتيال أحد قادة حماس على الأراضي التركية، أو باستهداف قادة أتراك أو مصالح تركية على غرار ما جرى في إيران عند بدء الحرب.
كما رأت تركيا في السلوك الإسرائيلي المنفلت خطرا يهدد بتفجير المنطقة ككل في ظل قصف إسرائيل لكل من لبنان وسوريا وقطر وإيران وغيرها، وهو ما سيؤثر بدون شك على المصالح التركية في المنطقة وقد يؤدي إلى موجات هجرة جديدة إليها، خاصة إذا تطور الصراع في سوريا إلى حرب مفتوحة بين إسرائيل والسوريين.
وفي مقابل ذلك ترى إسرائيل في تصاعد القوة التركية العسكرية خطرا، ومن هنا تحاول منعها من الحصول على السلاح الأمريكي المتقدم مثل F35، وتحاول تحريض الولايات المتحدة عليها من هذا الباب، وتخشى إسرائيل من القوة البحرية التركية، ومن توسع نفوذها في المنطقة.
علما أن تركيا تملك أدوات ضغط كبيرة على إسرائيل استخدمت بعضها، ويمكن أن تستخدم بعضها الآخر، مثل وقف التجارة مع الاحتلال، وإغلاق المجال الجوي في وجهه، ووقف التعاون الاستخباراتي، والمساهمة في تعزيز قوة القوى المعادية للاحتلال مثل إيران، ورفع قضايا دولية على قادة إسرائيل، وتكثيف الهجوم الإعلامي عليها.
وتبقى أحد أهم مجالات الخلاف بين تركيا وإسرائيل هو ملف الطاقة، وتقسيم مناطق النفوذ المتعلقة به في البحر المتوسط، حيث ترفض تركيا التعاون اليوناني الإسرائيلي في هذا المجال وتخشاه، كما تخشى إسرائيل التعاون بين تركيا وليبيا في المجال نفسه، وترى إسرائيل أن نجاح تركيا في التحول إلى لاعب مهم في إيصال الغاز العربي إلى أوروبا من خلال أنبوب يمر بأراضيها والأراضي السورية تعزيزا كبيرا لدورها وتأثيرها الذي يمكن أن يستخدم للإضرار بالاحتلال وبمصالحه لدى أوروبا.
والسؤال هنا: ما هي انعكاسات الخلاف التركي الإسرائيلي على الفلسطينيين؟
لاشك أن أي خلاف بين الاحتلال وأي دولة إقليمية يصب في مصلحة الشعب الفلسطيني، حيث سيعزز علاقة تلك الدولة بالقوى الفلسطينية المقاومة، ويدعم حقوق الشعب الفلسطيني، ويدفع تلك الدولة للتصعيد في مواجهة الاحتلال ديبلوماسيا واقتصاديا وقانونيا وإعلاميا.
لكن الخلاف التركي الإسرائيلي قد يقلص من قدرة تركيا على إسناد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة إغاثيا واقتصاديا، وقد يتواصل الرفض الصهيوني لمشاركة تركيا في إعادة إعمار قطاع غزة، وهو ما يمكن لتركيا تجاوزه من خلال تعزيز تعاونها مع مصر في هذا المجال، ومن خلال الضغط على واشنطن لتفتح لها بوابة إغاثية، خاصة مع الحديث الأمريكي عن قدرة تركيا على التأثير على حماس، والتواصل معها بشكل فعال.
كما أن تعزيز التعاون التركي الإيراني أمام الاحتلال الإسرائيلي سيعزز من قدرة الطرفين على إسناد المقاومة الفلسطينية، ويتيح لها مساحة أكبر من الحركة التي كانت ستظل محدودة في حال استمرار خلاف الأتراك والإيرانيين.
كما أن تقوية سوريا الجديدة من خلال الدور التركي سيصب في صالح الفلسطينيين من ناحية أن الاحتلال سيظل منشغلا بجبهة جديدة، متخوفا منها ومستعدا للمواجهة فيها في أية لحظة، كما قد يعزز من تواجد حماس في سوريا عسكريا.
كما يمكن للفلسطينيين تعزيز العلاقة مع المؤسسات التركية الأهلية والإعلامية والقانونية في مواجهة الاحتلال في مختلف الصعد، ومنها مطاردته في المحاكم الدولية، ووسائل الإعلام، ومن خلال الفعاليات الجماهيرية.